للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في شيء ولا يحرز شيئا، وإنما طبيعته أشواقه الكونية، واتصاله بنفحات القوة الأزلية المسخرة للوجود كله. فانتشرت هذه الموجة الكهربائية الأثيرية حول الجارية من قلبها، وجاء الذئب فالتج فيها وغمرته الروحانية الغالبة، فإذا هو يفتح عينه على كون غريب قد تجلى السلام عليه، فليس فيه إلا قوة آمرة أمرها بائتلاف كل شيء مع كل شيء، واجتماع المتنافرين في حالة معروفة لا في حالة إنكار. فصار الذئب مستيقظا، ولكنه في روح النوم، وشلت فيه الذئبية الطبيعية، فإذا هو يحمل الأنياب والأظافر وقد أنسي استعمالها؛ وبقيت حركته الحيوانية، ولكن تعطلت بواعثها فبطل معناها.

ومن كل ذلك اختفى الذئب الذي هو في الذئب، وبقي الحيوان حيا ككل الأحياء، فناسب الشاة وفزع إليها إذ لم تكن العلاقة بينهما علاقة جسم الآكل بجسم الأكيلة، بل علاقة الروح الحي بروح حي مثله١.

قال "النابغة": أما أنا فقد فهمت ولكن هذا المجنون لم يفهم. أكتب يا س. ع: جلس نابغة القرن العشرين مجلسه للفلسفة على غير إعداد ولا تمكن، وبدون كتبه ألبتة ... وكان هذا أجمع لرأيه وأذهن له وأدعى لأن يتوفر على الإملاء بكل "مواهبه العقلية"؛ ولما أن فكر النابغة أعطي النظر حقه وجمع في عقله الفذ جزالة الرأي إلى قوة التفنن والابتكار، قال مرتجلا: إن فلسفة الذئب والشاة حين لم


١ روت الصحف في هذه الأيام قصة حاكم إنجليزي كان قد اقتنص ذئبا هنغاريا وشده في سلسلة وجعله في حديقة داره إلى أن يرى فيه رأيا؛ وكان للحاكم طفل صغير أعجبه الذئب ومنظره الوحشي فتربص إلى الليل، فلما استثقل أهله نوما انسل من حجرته وهبط الحديقة وجاء إلى الذئب فوثب هذا يتحفز لافتراسه؛ ولكن الطفل لم يدرك شيئا من معنى هذه الوحشية، ولم يكن في نفسه إلا أن الذئب كالكلب فلم يضطرب ولم يخف ولم يداخله الشك؛ ومضى إلى الوحش مسرورا مطمئنا فتناوله من شعره وجعل يمسحه بيده الصغيرتين ويعبث به، والذئب مدهوش ذاهل، ثم سكن واستأنس إليه كأنه مع جرو من أجرائه لا مع طفل آدمي؛ وجذبه الطفل من رقبته حتى أضجعه ثم اتخذه وسادة ووضع رأسه على ظهره ونام ... وافتقدت الطفل مربيته فلم تجده في فراشه، فنبهت أهله وذهبوا يبحثون عنه في غرف الدار، ثم نزلوا إلى الحديقة فبصروا به نائما ورأسه على الذئب، وخافوا إزعاج الوحش فرموه بالرصاص فقتلوه وقام الطفل يبكي على صديقه الوفي ...
هذا هو أثر الروح المطمئنة الماضية على يقينها، ولكن أين مثل هذا اليقين في مثل هذه الحالة؟ وكل مروضي الوحوش يعلمون أنه أول وآخر ما يخيفونها به هو نزع الخوف من أنفسهم، وأن هذا هو وحده سلاح النفس في النفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>