الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسان واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها؛ فتكون المتكلمة عنه، والحاملة لرسالته، وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة.
إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة، ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي تنشره؛ فليس مستحيلًا ولا متعذرًا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم، ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد إسلام في الأمة الغريبة عنه، حتى إذا وجد تولي هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية؛ لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يكن يحمله إلا التاجر، كما كان ينتشر وحامله الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحًا من فلسفة الدين وأسرار حكمته؛ فهذا الدين كما قلنا في بعض كلامنا١: أعمال مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلمي المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى؛ وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه: لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو ويجد ما يثبت، والثبات يوجد ما يدوم؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله:"نضر الله امرأ سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع".
أما والله إن هذا المبلغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ.
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام محمد عبده -رحمه الله- إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر