مواضع وأخفاها؛ وكان مندّى بالعطر؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه، ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب، فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد "خضراء" دينارًا ذهبًا على ندرة الذهب وعزته؛ فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه، والحب الذي أعطاه، والجمال الذي أخذه؛ ثم انتهى إلى الجمل، فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون وقد حمى دمه الحرُّ، وجاش جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق، وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان بها نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل، ورأى بصيص الدينار، فدارت به الأرض، وأيقن أن العار قد طرق ببابه، وأن الباب قد فتح له؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضعه، وتلقف رأيه على جريمتين، وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل، وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه!
وذكر أن "حماته" أثنت من عهد قريب على ابن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته؛ لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته: لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت من سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمنًا طويلًا، فبنا إلى غيابك حاجة شديدة! وكاد يبطش بها، ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيدة ومضى الانكسار يعرف فيه!
فزع الناس بعد أيام في جوف الليل، فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه، واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان: وانطلقت أسرار الألسنة، وقبض على الرجل في بلد آخر، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر "الجمل" ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء، وإنها أطهر النساء وأبرّهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقًا!
فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شيء تريده؟ فطلب دخينة* فقدمها له قيم السجن، فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة. ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع