للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد.

قلت: اللهم عفوًا؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟

فأطرق مليًّا كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي! من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء العقل، وفوق الإرادة؟ لقد بلغ بين هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث -أراها موجهة إليّ أنا..

ثم قال: انطلق بنا فتراها حتى تعلم منها علمًا، فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤة إلا في أعماق بحر.

وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غناء مترامية الجهات بعيدة الأطراف، تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلة بمعاني الهجر والعشق.

وتقدمنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حي كأن فيه غوامض قلب كبير، فما أرى فرقًا بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهم اللانهاية، فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة، فإن رؤيتها سيدة غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمال فن ولتلك فن جمال.

ولم نلبث إلا يسيرًا حتى وافت، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنما تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساس نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها، وانتفض مجنونا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره ...

وكان عجبًا من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها، فقال: أنت ترى؛ فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة! قلت: آه يا صديقي! إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.

ونفذنا إلى المسرح، وتحرى صاحبنا موضعًا يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفيًا منها، ثم رفع الستار عنها بين اثنين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات، وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.

وبرزت "تلك" في ثوب من الحرير الأسود، وهي بيضاء بياض القمر حين يتم وقد شدت وسطها بمشدة من الحرير الأحمر، فتحبكت بها وظهرت شيئين:

<<  <  ج: ص:  >  >>