قلت: يا عدو نفسه! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفًا إنسانيًا؟
قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا إغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراء لذلك الإغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر؛ أغالب ناموسًا من نواميس الكون، وأدافع قانونًا من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفًا وإلحاحًا وقهرًا للنفس، من قيل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة؛ فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممنعة بعيدة المنال، لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العنيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي!
ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل، فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت "الحقيقة" في شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمنًا قلبيًّا يحصر وجوده في وجودها.
وليس فن الحب شيئًا إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه، كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة.
والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينهما إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون، غير أنها في الحب تجد لها فكرًا وخيالًا من المحبوب، فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهول من أسرار الألوهية؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل، وتراه في وهم محبه يفرض فروضًا ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.