للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذف به إلى بعيد بعيد وراء فضائله وعصمته؛ فسنحت له كما يسنح الصيد للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهي.. وتركت شعوره جائعًا إلى محاسنها بمثل جوع المعدة.. وبرزت له صريحة كما هي، ولما هي؛ ومن حيث إنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.

آه من "هي" إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب! وآه من "هي" إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!

إن في كل امرأة.. امرأة يقال لها "هي"١ باعتبار الضمير للتأنيث فقط، كما يعتبر في الدابة والحشرة والإدارة ونحوها من هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير؛ ولكن "هي" المفردة في الكون كله لا توجد في النساء إلا حين يوجد لها "هو"..

أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، قد كابدت من شدة الحب وإفراط الوجد ما يفعم قلبين مسكينين لا قلبًا واحدًا؛ وكانت لي "هي" من إلهيات عانيت فيها الحب والألم دهرًا طويلًا؛ وقد ذهبت بي في هواها كل مذهب إلا مذهبًا يحل حرامًا، أو مذهبًا يخل بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو ألا يخرج من العاشق محرم.

فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجل جمال الأنثى يظهر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها؛ فهو في الأولى يشهد الإلهية في إبداعها السامي الجميل، وفي الأخرى لا يرى غير البشرية حيوانيتها المتجملة..

وقد أدركت من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم -قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلم، فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة: "تلطيف السر"، أي جعله مستعدًا للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدوا فيما يعين عليه، الفكر الدقيق والعشق العنيف.


١ قلت: هنا رسالة إلى "فلانة" من تلك الرسائل التي كانت بينهما بعد القطيعة ... وانظر ص ٨٣ "حياة الرافعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>