للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظماؤه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير.

ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم.

وكان هذا كلامًا بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال النفس، فلا جرم أهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو.

ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالته١ من دنيا ضميره وضمير الشحاذ, فرأي فيما يرى النائم أن ملكًا من الملائكة يهتف به:

ويلك! لقد طردتَ المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخرى تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه، وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير، واسترد العارية صاحبها، وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيرًا محتاجًا تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك إلا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا، فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميرًا.

قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كل ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهمًا فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكرًا من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير، فإذا هو بعد ذلك صعلوك أبتر معدم رث الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظًا: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟

قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك, إن الأقدار لا تدلل أحدًا، لا ملكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير.


١ الخيالة: ما يتراءى للنائم من الأشباح في نومه.

<<  <  ج: ص:  >  >>