والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك!
قال: آه! من أنا الآن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء.
قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه.
قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر، وكأنه في أيام خلت، وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع.
قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالًا أنه ظالم قاهر عنيف، كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره، وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحيانًا غير جميل في المعاملة!
قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف؛ فهي تطلبني وأتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفر، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك.
قلت: فإن هذه هي المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها.
قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسافة بيني وبينها؟ خطوة، خطوتان؟ كلا، كلا؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها، إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية؛ وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا "نعم" بلا شرط ولا قيد؛ لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل "لا" لأنه طاهر! ثم هو لا يرضى "نعم" إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل.
وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب؛ وشرفه حينئذ هو سر قوته وعنصر دوامه.
أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملًا وكانت حبيبته ناقة.. إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمي الشرف، وألا يكون بينهما إلا قيد غريزتها الذي ينحل من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها؛ والقوة والضعف في قانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصاب وتسليم.