قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان؛ فإن بينهما قوة وضعفًا من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك.
قال: وهذا مما يقطع في قلبي؛ فلو أن للأمة دينًا وشرفًا لما بقي موضع الزوجة فارغًا من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغي هي في المعنى دين متروك وشرف مبتذل في الأمة.
قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خياليًّا محضًا كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معًا، وحواسك هذه لا تزال كما هي، بل هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد؟
قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكن يفي غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده، وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فاعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بإزائها ما تقاومه، فتتخلى عنه وتخذله؛ وفضيلته لا تجد ما تستعلن فيه، فتتوارى وتدعه؛ وشخصيته لا تجد ما تبرز له، فتختفي وتهمله؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدة الشوق؛ وهنا ينتقم الحب مما زورت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية، فيضرب بحقائقه ضربات مؤلمة لا تقوم لا القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفيًا لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه؛ وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصد وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم!
لا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائمًا ثياب استعارة ما دام لابسها في دوره من القصة.
ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه! إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان.
مَنْ مِنَ الناس لا يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه