وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته، فقلت: وقال رئيس التحرير ... ؟
فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء -صلوات الله عليهم- فكما انقلبت العصا حية تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في معجزات الصحافة إذا تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسة؛ فتكون للتهويل، وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة، ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدقك الناس؛ فإن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه، ولكن للغرض الذي يساق له؛ إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقًا وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب؛ ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا ...
ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله أن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع ...
قلت: يا شيخنا، فإنك هنا عندهم؛ لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب: تُقرأ فيها معانٍ لا تكتب، ويكون في عبارتها حياة وفي ضمنها طلب ما يستحي منه ... والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض أسود في الليل، والأسود أبيض في النهار؛ ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟
قال: بلى، نعم الشاهد هو وأمثاله!؛ إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلى قد ححجت. قال الخصم؛ فاسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها ...