قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه: ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلًا في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملًا يعملونه بالنفي والإثبات؛ ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق، فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من معناها الواقع.
والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها ما دام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، وما دامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة؛ وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة؛ ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة، وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها، وصارت نعوت المناصب وكلمات "باشا" و"بك" من الكلام المقدس صحافيًّا ...
يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعًا في "محليات الجريدة"؛ ويأتيهم اسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف "المحليات" إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق؛ وهذا واجب، ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب؛ ولو أن للأديب وزنًا في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة؛ فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير.. ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها، وأكثر الألقاب عندنا هي أغلاط في معنى الشرف ... ؟
ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة "أميرال" إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجًا من الورق وهو يخطط فيه رسمًا من رسوم الحرب؛ ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا: فسخرت منه الذبابة وقالت: ما أيسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي ونيمها* هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن ...
* ونيم الذباب: هو " ... " أي هذه النقط السود التي يحدثها.