للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم نشر بعد ذلك في عدد شهر مايو سنة ١٩٢٧ مقالًا جعل عنوانه "أسلوبنا في الترجمة والتعريب" وابتدأه بهذه العبارة: "اللغة جسم حي نامٍ، وشأن من يحاول منعها من النمو شأن الصينيين الذين يربطون أقدام بناتهم لكي لا تنمو وتبلغ حدها الطبيعي، ولكن إذا كان النمو مشوهًا فلا بد من تقييده وتهذيبه؛ وكل ما نقوله نحن هو التقييد والتهذيب واتقاء الشوهة أن تلم باللغة وأساليبها فتترادف على محاسنها بمعايبها، وتطمس مفاتنها بمقابحها؛ فإن هذه المعايب والمقابح إذا هي استجمعت وانساغت في لغة من اللغات لبستها بأشكالها فلا تزال تنكر منها حتى لا تبقي لها وصفًا يعرف، والحسن وحده هو الذي يحد بالأوصاف والتعاريف، وهو الذي يدقق فيه ويبالغ فيه قياسه وتقديره، فإن وقع فيه الفضول واختلطت الحدود وضعفت الملاءمة وجرى الوصف ناقصًا وزائدًا فقد خرج إلى القبح، وإن خرج إلى القبح لم يعد الناس يحدون له حدًّا أو يعبأون له بقاعدة، ووجدوا فيه كل الأوصاف الجميلة مقلوبة منكرة؛ لأنه هو جمال مقلوب؛ "فتقييد التشويه وتهذيبه" كلمتان فيهما الكلام كله، أو هما المصراعان لهذا الباب؛ ومن أجل ذلك كنا نعد الدكتور من حجتنا على أصحاب الجديد؛ لأنه أوسعهم إحاطة وأكثرهم علمًا وأمدهم عملًا، ثم لن يدانيه أحد منهم إلا إذا جمع لنفسه عمرين، وهل في الجديد رجل ذو عمرين؟..

قلنا: إن الشيخ كان في المنزلة التي تلي منزلة الواضع، وقد دفعته العلوم إلى ذلك دفعًا، لأنه مقيد بخاص المعنى في كل ما يترجم أو يعرب، ثم بالخصائص العلمية الدقيقة التي لا تحتمل في أدائها ما تحتمل المعاني الأدبية؛ وقد تصدر للكتابة والترجمة منذ شباب هذا العصر، ومنذ بدأ الناس يقرأون العلوم الحادثة في الشرق؛ فلا جرم لم يكن لغويًّا كأبي عمرو وأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم ممن يحملون عن العرب ويؤدون ما حملوه، ولا كان لغويًّا في طريقة سيبويه والكسائي والزجاج والأخفش واليزيدي وأشباههم ممن ينظرون في اللغة وعللها وأقيستها وشواذها؛ ولكنه لغوي فيما يعمر بين الشرق والغرب، يحمل بلسان ويؤدي بلسان غيره ويوافق بين المعاني الجديدة والألفاظ القديمة، ويشابك بين خيوط التاريخ في هذه وهذه، ويأخذ اللغة للاستعمال لا للحفظ وللتعليم لا للتدوين وللمنفعة لا للمباهاة وللفائدة لا للتنبل؛ ويترجم وإن في خياله العالم الواسع الذي ينقل عنه بعلمائه وأدبائه وكتبه ومجلاته ومصطلحاته، ويكتب وإن له تلك الملكة الدقيقة التي كونتها العلوم الرياضية

<<  <  ج: ص:  >  >>