للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال حذيفة: لوددت أنَّ صاحبكم لا يشدد هذا التشدد؛ ولقد رأيتني أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتماشى فأتى سباطةً خلفَ حائطٍ، فقام كما يقوم أحدكم؛ قال: فانتبذت منه فأشار إليَّ فجئت فقمت عند عقبيه حتى فرغ (١).

فظهر من هذا أن مقصود حذيفة رضي الله عنه أن هذا التشدد خلاف السنة؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بال قائمًا ولا شكَّ في بول القائم معرضًا للترشيش، ولم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الاحتمال ولم يتكلف البول في قارورة كما فعل أبو موسى.

ومما يستفاد منه أيضًا: أنَّه إذا تعارضت مفسدتان، ولم يمكن دفعهما دفع أعظمهما، أو مصلحتان ولم يمكن الإتيان بهما أتي بأعظمهما، وذلك أنَّ مصلحة تقدم حذيفة لِيستْرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من المارة مرجحة على مصلحة تأخره عنه، لما يقتضيه التأدب معه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم محلِّه من الدنو منه في تلك الحالة، فقُدِّمت المصلحة العظمى، وكذلك تجنب مدافعة البول أهمُّ من تجنب البول في السباطة؛ فروعي الأهم في ذلك.

وقول أبي موسى: "كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه" يعني: الجلود التي كانوا يلبسونها، قاله أبو العباس القرطبي (٢)، قال: وقد سمعت بعض أشياخي يحمل هذا على ظاهره ويقول: إن ذلك كان من الإصر الذي حُمِّلوه (٣).

قلت: وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الفتح القشيري يذكر ذلك في تعظيم أمر النجاسة مشيرًا إلى المعنى الثاني، والله أعلم.

* * *


(١) مسلم في "صحيحه" (كتاب الطهارة (١/ ٢٢٧ / ٧٤) باب المسح على الخفين.
(٢) يوجد كلام بالهامش عند قول القرطبي في نسخة ت (ل ٤٣ / ب) "هذا التأويل يرده أن في بعض الروايات. . .".
(٣) "المفهم" (١/ ٥٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>