للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا كلامٌ طَيِّبٌ في ظاهره، لكنَّه يرمز به إلى شيءٍ من مذهبه، فهو يريد أن يعترض به على من يُثْبِتُ القَدَرَ، فقوله: (سبحان من تَنَزَّهَ عن الفحشاء)، يعني: سبحان من تَنَزَّه عن أن يريد الكفر والمعاصي، ففهم أبو إسحاق الإسفرائيني مغزاه، فأجابه على الفور قائلاً: (سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء) (١).

فمَن قال: إنَّ الله تعالى لم يشأ الكفر والمعاصي، فإنَّ ذلك مقتضاه أنَّ الله عاجزٌ، وأنَّه يكون في ملكه ما لا يشاء، وعند المعتزلة حتى الطاعات لم تقع بمشيئته سبحانه؛ لأنَّ أفعالَ العباد - عندهم - طاعتَهم ومعصيتَهم كلَّها واقعةٌ بِمَحْضِ مشيئتِهم وقدرتِهم دون مشيئة الله تعالى وقدرته.

فأشار الناظم في هذا البيت إلى البرهان العقلي على أنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله ﷿، وواقعةٌ بإرادتِه، أفعالُهم كلُّها، طاعتُهم


(١) ينظر: «تفسير الرازي» (٢١/ ٦٠)، و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (٤/ ٢٦١)، وهذا نصُّها كما أوردها العلَّامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه «أضواء البيان» (٧/ ٩٧) وهي:
أن القاضي عبد الجبار قال: «سبحان من تَنَزَّه عن الفحشاء»، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله؛ لأنَّه في زعمه أَنْزَهُ من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته. فقال أبو إسحاق: «كلمةُ حقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ»، ثم قال: «سبحان مَنْ لم يَقَع في مُلْكِهِ إلا ما يشاء». فقال عبد الجبار: «أَتُرَاهُ يشاؤُهُ ويعاقبني عليه؟!». فقال أبو إسحاق: «أتُرَاك تفعله جَبْراً عليه، أأنت الرَبُّ وهو العبدُ؟». فقال عبد الجبار: «أرأيتَ إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّدَى، دعاني وسدَّ الباب دوني، أتراه أحسن أم أساء؟». فقال أبو إسحاق: «أرى أنَّ هذا الذي منعك إن كان حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، عن ذلك علواً كبيراً، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضلٌ، وإن منعك فعدلٌ». فبُهِتَ عبدُ الجبَّار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جوابٌ.

<<  <   >  >>