للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقُرْآنِ وَلِتَقْدِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَقْرَأُ مِنْهُ. (فَالْقُرْآنِ) أَيْ فَفَاضِلٌ بِالْقُرْآنِ بِأَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ قُرْآنًا مُقَدَّمًا عَلَى الْأَوْرَعِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ احْتِيَاجًا إلَيْهِ مِنْ الْوَرَعِ، وَفِي مُسْلِمٍ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» وَفِي رِوَايَةِ سَلْمًا «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» وَظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ الْأَقْرَأِ عَلَى الْأَفْقَهِ، كَمَا هُوَ وَجْهٌ وَأَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ كَانُوا يَتَفَقَّهُونَ مَعَ الْقِرَاءَةِ، فَلَا يُوجَدُ قَارِئٌ إلَّا وَهُوَ فَقِيهٌ قَالَ النَّوَوِيُّ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ " فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ " دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا انْتَهَى.

وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَأِ فِي الْخَبَرِ الْأَفْقَهُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ اسْتَوَوْا فِي فِقْهِهِ، فَإِذَا زَادَ أَحَدُهُمْ بِفِقْهِ السُّنَّةِ، فَهُوَ أَحَقُّ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ الْأَفْقَهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ. (فَوَرَعٍ) أَيْ فَفَاضِلٌ بِالْوَرَعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَسَنِّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] وَالْوَرَعُ مَا يَزِيدُ عَلَى الْعَدَالَةِ بِالْعِفَّةِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ، ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقِ: إنَّهُ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ وَالِاشْتِهَارُ بِالْعِبَادَةِ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَلَمْ يُقَدَّمُوا بِالزُّهْدِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يُقَدَّمُ بِهِ، وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ تُوُهِّمَ أَنَّ الزُّهْدَ قَسِيمٌ لِلْوَرَعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ قِسْمٌ مِنْهُ، إذْ مِنْ أَقْسَامِ الْوَرَعِ مَا سَمَّاهُ زُهْدًا، هَذَا كَلَامُ الرَّادِّ

ــ

[حاشية العبادي]

قَوْلُهُ: وَأَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ إلَخْ) اُنْظُرْ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَلَفَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ، وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ، وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَفْقَهَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَأَ مِنْهُ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ جَوَابِ الشَّارِحِ الْآتِي عَنْ إشْكَالِ النَّوَوِيِّ بِرّ. وَوَجْهُهُ التَّوَقُّفُ أَنَّ قَضِيَّةَ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْقَهُ مِنْهُ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَقْرَأُ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا يَصِحُّ إنَّ اُلْتُزِمَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ، وَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْبَعِيدِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ

(قَوْلُهُ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا) أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْأَعْلَمِيَّةَ بِالسُّنَّةِ، لَا إذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَأَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ جَمِيعِهَا، وَأَنَّ مَنْ حَفِظَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ حَفِظَ جَمِيعَهُ إلَّا سُورَةً قَصِيرَةً مَثَلًا مَعَ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ السُّنَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْدَفِعُ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْجَوَابِ بَلْ هُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا، وَأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ عَنْ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ وَزَادَ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَكْثَرِ قُرْآنًا عَلَى مَنْ هُوَ أَقَلُّ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ الْأَقَلِّ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَجْمُوعُ مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ السُّنَّةِ أَكْثَرَ فِقْهًا مِمَّا مَعَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِمَا ذُكِرَ، فَالْحَقُّ بَقَاءُ اعْتِرَاضِ النَّوَوِيِّ بِحَالِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ وَقَدْ يُجَابُ إلَخْ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ حِينَئِذٍ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَفْقَهِ فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِصِدْقِ الْأَفْقَهِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ بِمَعْرِفَةِ نِصْفِهِ وَسُورَةٍ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الْبَاقِيَ مَعَ انْضِمَامِ جَمِيعِ السُّنَّةِ أَوْ الْأَحْكَامِ مِنْهَا أَكْثَرُ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَصْدَ بِهِ يُفْهِمُ أَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ مَا نَقَلَهُ، فَاعْتِرَاضُ النَّوَوِيِّ عَلَى الْجَوَابِ

ــ

[حاشية الشربيني]

فَالْأَحْسَنُ وَجْهًا اهـ. ق ل عَلَى الْجَلَالِ وَفِي الرَّوْضَةِ أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِأَحَدِهِمَا قَطْعًا اهـ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَوَّلَ الْمَرَاتِبِ اهـ.

(قَوْلُهُ أَكْثَرَ قُرْآنًا) وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَصَحُّ قِرَاءَةً اهـ شَيْخُنَا ذ، وَحَاصِلُ الْمَرَاتِبِ إحْدَى عَشَرَةَ شَيْخُنَا ذ فَتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ) قَالَ الْمَحَلِّيُّ هُوَ فِي الْمُسْتَوِينَ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ كَالْفِقْهِ اهـ. أَيْ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ أَوَّلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ «تَقْدِيمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ» إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ (قَوْلُهُ وَأَجَابَ إلَخْ) مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَتَفَقَّهُونَ مَعَ الْقِرَاءَةِ سَاغَ أَنْ نَقُولَ: إنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْرَأِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْفِقْهِ لِاحْتِيَاجِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ احْتِيَاجِهَا لِلْأَكْثَرِ قِرَاءَةً، ثُمَّ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ» أَيْ وَكَانَ فِيهِمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، فَأَعْلَمُهُمْ بِهَا يُقَدَّمُ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَقْدِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى غَيْرِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ، فَإِنَّ بِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ

(قَوْلُهُ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ إلَخْ) أَيْ حَيْثُ رُتِّبَ تَقْدِيمُ الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ تَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا) أَيْ حَتَّى عَلَى الْأَفْقَهِ بِفِقْهِ الصَّلَاةِ، بَلْ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ الْأَفْقَهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي فِقْهِ الْقُرْآنِ الْخَارِجِ عَنْ فِقْهِ الصَّلَاةِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ فَلْيُتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ قَدْ عُلِمَ إلَخْ) أَيْ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّسَاوِي فِي فِقْهِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ (قَوْلُهُ مَا يَزِيدُ إلَخْ) عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْعَدَالَةِ، بَلْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ وَالْعِفَّةِ اهـ. (قَوْلُهُ إذْ مِنْ أَقْسَامِ الْوَرَعِ إلَخْ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْعِفَّةُ مَعَ حُسْنِ السِّيرَةِ لَكِنْ يُنْظَرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>