مَأْمَنِهِ (وَامْتَنَعَ اسْتِرْقَاقُهُ إنْ اهْتَدَى) أَيْ: أَسْلَمَ (مِنْ قَبْلِ مَا اخْتَارَ الْإِمَامُ) فِيهِ (الْأَجْوَدَا) لَنَا وَخَالَفَ الْأَسِيرَ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ بِالْقَهْرِ فَخَفَّ أَمْرُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ، وَفِدَاؤُهُ إذْ لَا يُفْدَى إلَّا مِنْ قَتْلٍ، أَوْ إرْقَاقٍ، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُمَا فَيَبْقَى الْمَنُّ فَلَوْ قَالَ النَّاظِمُ وَامْتَنَعَ غَيْرُ الْمَنِّ كَانَ أَوْلَى وَأَخْصَرَ إلَّا أَنَّهُ تَبِعَ الْحَاوِيَ وَكَثِيرًا فِي التَّعْبِيرِ الْمَذْكُورِ الْمُوهِمِ خِلَافَ الْمُرَادِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَاوِي وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ فَيَبْقَى الْمَنُّ، وَالْفِدَاءُ. اهـ.
وَجَرَى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ، ثُمَّ مَحَلُّ امْتِنَاعِ إرْقَاقِهِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ فَإِنْ قَاتَلَنَا فَكَالْأَسِيرِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إرْقَاقُهُ، أَمَّا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الرِّقِّ فَيُرَقُّ، أَوْ الْقَتْلِ فَيُطْلَقُ أَوْ الْمُفَادَاةِ فَتَلْزَمُ
(وَلَيْسَ بِالْبُطْلَانِ فِي أَمَانِهِمْ) أَيْ: الْكُفَّارِ الْكَامِلِينَ (يَبْطُلُ) الْأَمَانُ (لِلنِّسَا) أَيْ: نِسَائِهِمْ (وَلَا صِبْيَانِهِمْ) وَسَائِرِ غَيْرِ الْكَامِلِينَ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ نَاقِضَةٌ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ، وَلَا إرْقَاقُهُمْ (وَجَائِزٌ تَقْرِيرُهُمْ) فِي دَارِنَا (وَمَنْ طَلَبْ مِنْ النِّسَاءِ) أَوْ الْمَجَانِينِ إذَا أَفَاقَ (دَارَ حَرْبٍ) أَيْ: الْعَوْدَ إلَيْهَا (فَلْيُجَبْ) إلَيْهِ (وَمَا كَذَا الصِّبْيَانُ) فَلَا يُجَابُونَ إلَيْهِ إذَا طَلَبُوهُ إذْ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ وَلِأَنَّهُمْ بَعْدَهُ بِصَدَدِ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمْ الْجِزْيَةَ، فَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَإِذَا بَلَغُوا وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ فَذَاكَ، وَإِلَّا أُلْحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ (قُلْتُ إنْ قَصَدْ) أَيْ: طَلَبَ (رَدَّ الصَّبِيِّ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ (مَنْ لَهُ) عَلَيْهِ (الْحَضْنُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ: الْحَضَانَةُ (يُرَدْ) إلَيْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَبَهُ مَنْ لَا حَضَانَةَ لَهُ عَلَيْهِ
(خَاتِمَةٌ)
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَسْمَاءَهُمْ، وَأَدْيَانَهُمْ، وَحِلَاهُمْ فَيَتَعَرَّضُ لِسِنِّهِ أَهُوَ شَيْخٌ أَمْ شَابٌّ وَلِلَوْنِهِ مِنْ شُقْرَةٍ، وَسُمْرَةٍ، وَغَيْرِهِمَا وَيَصِفُ وَجْهَهُ، وَلِحْيَتَهُ، وَجَبْهَتَهُ، وَحَاجِبَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَشَفَتَيْهِ وَأَنْفَهُ وَأَسْنَانَهُ وَآثَارَ وَجْهِهِ إنْ كَانَ فِيهِ آثَارٌ، وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا يَضْبِطُهُمْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَنْ مَاتَ وَمَنْ بَلَغَ وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَلِيُحْضِرَهُمْ لِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَالشَّكْوَى إلَيْهِ مِمَّنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ مِنَّا وَمَنْ يَتَعَدَّى مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِيفُ لِلْفَرْضِ الثَّانِي ذِمِّيًّا لَا لِلْأَوَّلِ إذْ لَا يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ
(فَصْلٌ فِي) بَيَانِ (الْهُدْنَةِ) . وَهِيَ مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتُسَمَّى أَيْضًا مُوَادَعَةٌ وَمُسَالَمَةٌ وَمُهَادَنَةٌ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهُدُونِ وَهُوَ السُّكُونُ يُقَالُ هَدَنْت الرَّجُلَ وَأَهْدَنْتُهُ إذَا سَكَّنْته وَهَدَنَ هُوَ سَكَنَ
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: ٢] أَيْ: كُونُوا آمَنِينَ فِيهَا {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ٢] وَقَوْلُهُ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: ٦١] «وَمُهَادَنَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» كَمَا رَوَاهَا الشَّيْخَانِ وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ
(إمَامُنَا وَنَائِبُ الْعُمُومِ) أَيْ: وَنَائِبُهُ الْعَامُّ بَلْ أَوْ الْخَاصُّ بِهَا (يُهَادِنَانِ كَافِرِي إقْلِيمِ) كَالْهِنْدِ وَالرُّومِ، وَكَذَا الْكُفَّارُ مُطْلَقًا وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُهُ كَأَصْلِهِ خِلَافَهُ (وَ) يُهَادِنُ (مَنْ يَلِيهِ) أَيْ: الْإِقْلِيمَ أَيْ: وَإِلَيْهِ (بَلْدَةً) أَيْ: أَهْلَ بَلْدَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ لِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إلَيْهِ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَيَرِدُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ لَمْ تَكُنْ الْبَلْدَةُ فِي إقْلِيمِهِ وَلَكِنَّهَا مُجَاوِرَةٌ لَهُ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ لِأَهْلِ إقْلِيمِهِ فِي الْهُدْنَةِ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ إقْلِيمِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْقُصُورُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْإِقْلِيمِ لَا مَعْنَى لَهُ فَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ إلَى مُهَادَنَةِ أَهْلِ بِلَادٍ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ النَّظْمِ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا أَنَّهُ لَا يُهَادِنُ جَمِيعَ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ وَبِهِ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ لَكِنْ صَرَّحَ الْعِمْرَانِيُّ بِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَخَرَجَ بِالْإِمَامِ، وَنَائِبِهِ الْآحَادُ فَلَيْسَ لَهُمْ الْمُهَادَنَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فَاخْتُصَّتْ بِالْإِمَامِ وَنَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِالْمَصَالِحِ وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْهُمْ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَرُبَّمَا أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ فَلَوْ عَقَدَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ قَوْمٌ مِمَّنْ هَادَنَهُمْ دَارَنَا لَمْ يُقَرُّوا لَكِنْ يُلْحَقُونَ بِمَأْمَنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ أَمَانِهِ وَإِنَّمَا يُهَادِنُ مَنْ ذُكِرَ (إنْ تَظْهَرْ) لَهُ (مَصْلَحَةٌ) لَنَا كَقِلَّتِنَا أَوْ قِلَّةِ مَا لَنَا أَوْ تَوَقُّعِ إسْلَامِهِمْ بِاخْتِلَاطِهِمْ بِنَا أَوْ الطَّمَعِ فِي قَبُولِهِمْ الْجِزْيَةَ بِلَا قِتَالٍ وَإِنْفَاقِ مَالٍ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مَصْلَحَةٌ لَمْ يُهَادَنُوا بَلْ يُقَاتَلُوا إلَى أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ إنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ تَعَالَى {فَلا تَهِنُوا} [محمد: ٣٥] الْآيَةَ (أَرْبَعَةً مِنْ أَشْهُرِ) فَأَقَلَّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِنَا ضَعْفٌ. قَالَ تَعَالَى {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ٢] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَقْوَى مَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَيْضًا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَسْلَمَ قَبْلَ مُضِيِّهَا» وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
ــ
[حاشية العبادي]
أَيْ: الصَّحِيحُ (قَوْلُهُ: إنْ اهْتَدَى) أَيْ: بَعْدَ الظَّفَرِ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْحَاشِيَةِ السَّابِقَةِ
(قَوْلُهُ: يَبْطُلُ) ضَبَّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِالْبُطْلَانِ إلَخْ وَكَذَا بَيْنَ قَوْلِهِ لِلنِّسَاءِ وَقَوْلِهِ صِبْيَانِهِمْ
[خَاتِمَةٌ يَكْتُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَسْمَاءَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَحِلَاهُمْ]
(قَوْلُهُ: لِلْفَرْضِ الثَّانِي) أَيْ: لِيُحْضِرَهُمْ، وَقَوْلُهُ: لَا لِلْأَوَّلِ أَيْ: مَعْرِفَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَخْ
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْهُدْنَةِ]
(فَصْلٌ فِي الْهُدْنَةِ) (قَوْلُهُ: بِعِوَضٍ) ظَاهِرُ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَنْقُصَ عَنْ دِينَارٍ كَالْجِزْيَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَوْ يُعَيِّنُهُ الْجَوَازُ بِلَا عِوَضٍ رَأْسًا (قَوْلُهُ: وَيُسَمَّى أَيْضًا) أَيْ: كَمَا تُسَمَّى هُدْنَةً وَكَتَبَ أَيْضًا كَمَا تُسَمَّى مُصَالَحَةً
(قَوْلُهُ: بَلْ أَوْ الْخَاصُّ بِهَا) فَلَمْ يَحْتَرِزْ الْمُصَرِّحُ بِقَيْدِ الْعُمُومِ إلَّا عَنْ الْخَاصِّ بِغَيْرِهَا
ــ
[حاشية الشربيني]
قَوْلُهُ: لَكِنْ صَرَّحَ الْعِمْرَانِيُّ إلَخْ) هُوَ الْوَجْهُ بَلْ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ. اهـ.
حَاشِيَةُ شَرْحِ الرَّوْضِ