للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن هذا كله يعلم أن الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) من خصوص المادة، لا من موضوع اللفظ. بل أقول: إن المصلي قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر في عينه من أن يشتغل ذلك الوقت بنفي عبادته، وإنما قصد الإخبار بعبادة الله.

وأول ما حضر في ذهنه عظمة من هو واقف بين يديه فقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليطابق اللفظ المعنى، ويتقدم ما تقدم حضوره في القلب، وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بنى على ما أخبر به من عبادته.

فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم يخبر عنه بشيء، بل هو معرض عنها.

وإذا تأملت مواقع ذلك في الكتاب والسنة، وأشعار العرب تجده كذلك، ألا ترى قول الشاعر (١):

أَكُلَّ امرِئٍ تَحَسَبِيْنَ امرءًا. . . ونَارٍ تَوَقَّدُ بِالليلِ نَارًا

لو قدرت فيه الحصر ب " ما " و " إلا " لم يصح المعنى الذي أراده.

وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون): " وفي تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك (٢) ".

وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن.

وقد اعترض عليه بعض الناس فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة، لا بغيرها.

وهذا الذي قاله هذا القائل بناه على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك، لما بيناه.

ثم قال هذا القائل: وتقديم (هم) أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها، حيث (قالوا لن يدخل) [سورة البقرة ١١١] و (لن تمسنا) [سورة البقرة ٨٠].

<<  <  ج: ص:  >  >>