[أقوال العلماء في الوضوء بالنبيذ]
قال الشارح رحمه الله تعالى: وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم: سفيان الثوري وغيره.
وهذا ضعيف، وأظنه مذهب الأحناف.
قال: وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
قلت: وهو الصواب؛ لأنه ليس ماءً مطلقاً وإنما هو ماء مقيد، ولا يتوضأ إلا بالماء المطلق، أما المقيد -كعصير الأشجار وعصير الفواكه، والماء الذي اختلط باللبن أو صب فيه حبر فتغير، وصار لا يسمى ماءً إلا بالقيد- فلا يتوضأ به.
قال: وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي.
قلت: لأنه مشكوك فيه، أي: توضأ بالنبيذ ثم تيمم لأنه شاك؛ فيتيمم من باب الاحتياط؛ لاحتمال أنه لا يجوز الوضوء به فيجمع بين الأمرين.
والصواب أنه إذا لم يجد ماء تيمم، فإن كان عنده عصير فواكه ولم يجد ماء فلا يتوضأ من العصير، بل يتيمم.
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عيسى: وقول من يقول: لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب وأشبه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣]].
والحديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: قوله: (وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره) ومنهم أبو حنيفة، قال في شرح الوقاية: فإن عدم الماء إلا نبيذ التمر، قال أبو حنيفة بالوضوء به فقط، وأبو يوسف بالتيمم فحسب، ومحمد بهما، انتهى.
واستدل لهم بحديث عبد الله بن مسعود المذكور في الباب، وقد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتجاج، وروي أن الإمام أبا حنيفة رجع إلى قول أبي يوسف، قال القاري في المرقاة: وفي (خزانة الأكمل) قال: التوضؤ بنبيذ التمر جائز من بين سائر الأشربة عند عدم الماء، ويتيمم معه عند أبي حنيفة، وبه أخذ محمد، وفي رواية عنه: يتوضأ ولا يتيمم، وفي رواية: يتيمم ولا يتوضأ.
وبه أخذ أبو يوسف وروى نوح الجامع أن أبا حنيفة رجع إلى هذا القول، انتهى.
وقال العيني في شرح البخاري (ص٨٤٩، ج١) ما لفظه: وفي أحكام القرآن لـ أبي بكر الرازي عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات: إحداها: يتوضأ به ويشترط فيه النية ولا يتيمم، وهذه هي المشهورة.
قال قاضي خان: هو قوله الأول، وبه قال زفر، والثانية: يتيمم ولا يتوضأ.
رواها عنه نوح بن أبي مريم وأسد بن عمر والحسن بن زياد، قال قاضي خان: وهو الصحيح عنه والذي رجع إليه، وبها قال أبو يوسف وأكثر العلماء، واختار الطحاوي هذا.
والثالثة: روي عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمد انتهى.
وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وبه قال أكثر العلماء وجمهورهم، ودليلهم أن النبيذ ليس بماء، قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣] وأجابوا عن حديث الباب بأنه ضعيف لا يصلح للاحتجاج، وضعف الطحاوي -أيضاً- حديث عبد الله بن مسعود، واختار أنه لا يجوز بالنبيذ الوضوء في سفر ولا في حضر، وقال: إن حديث ابن مسعود روي من طرق لا تقوم بمثلها حجة، وقد قال عبد الله بن مسعود: إني لم أكن ليلة الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووددت أني كنت معه).
[وقول من قال: لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب وأشبه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:٤٣] أي: والنبيذ ليس بماء.
قال ابن العربي في العارضة: والماء يكون في تصفيته ولونه وطعمه، فإذا خرج عن إحداها لم يكن ماء.
وقال: فلم يجعل بين الماء والتيمم واسطة، وهذه زيادة على ما في كتاب الله عز وجل، والزيادة عندهم على النص نسخ، ونسخ القرآن عندهم لا يجوز إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر، ولا ينسخ الخبر الواحد إذا صح، فكيف إذا كان ضعيفاً مطعوناً فيه؟! انتهى.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي: وأما قول: إنه يلزم الزيادة على القاطع بخبر الواحد، فالجواب أنه وإن كان الماء المنبذ مقيداً في بادئ الرأي إلا أن العرب يستعملون النبيذ موضع الماء المطلق، فلم يكن على طريق التفكه، بل يكون مثل الماء المخلوط بالثلج المستعمل في زماننا، فإنه لا يقول أحد بأنه ماء مقيد.
انتهى.
قال الشارح: قلت: هذا الجواب واه جداً؛ فإن النبيذ لو كان مثل الماء المخلوط بالثلج لم يقع الاختلاف في جواز التوضؤ به عند عدم الماء.
قلت: الثلج هو ماء منعقد، وليس مثل النبيذ، بل الثلج ينعقد من الماء ويذوب فيكون ماء، فليس مثل النبيذ.
قال الشارح رحمه الله تعالى: والعجب كل العجب أنه كيف تفوه بأن النبيذ مثل الماء المخلوط بالثلج، ومعلوم أن الثلج نوع من أنواع من المياه الصرفة، فالماء المخلوط به ماء صرف، وأما النبيذ فليس بماء صرف، بل هو ماء اختلط به أجزاء ما ألقي فيه من التمر وغيره.