[فضل علم الحديث وأهله]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الفصل الثاني: في فضيلة علم الحديث وأهله.
اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة جميع العقائد وإسطقفها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط جارها وقارها؛ هو علم الحديث الشريف].
قوله: (هو علم الحديث) خبر إن، أي: اعلم أن كذا هو علم الحديث، فالجملة تكون خبراً.
قوله: [الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرفع من دره ولم يخض في بحره ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام، فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم] يعني: حاف في حكمه، والجور: هو الحيف والميل.
قوله: [وقال على الله ما لم يعلم، كيف وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم من عند رب العالمين، فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، وكما قيل: كلام الملوك ملك الكلام هو تلو كلام الله العلام، وثاني أدلة الأحكام، فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها.
فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص، بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام، ومأخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار في نقل هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار، وما كان زيفاً غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار، فكل قول يصدقه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان، فهي أي: علوم الأحاديث مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوي وهوى، وما زاد نفسه إلا التخسير؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر، وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر، وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم التي هي ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين، كيف وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره أو أشار إليه، أو تفكر فيه أو خطر بباله، أو يحس في خلده واستقام عليه.
فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب والعمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنه يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث.
ولقد صدق، فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية، تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية، كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة، وهذا علم تعطي مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية؛ لأنها في الحقيقة: هي الاطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم، ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول، ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله: أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا].
يعني: أن أهل الحديث لم يصحبوا ذاته، لكن صحبوا أنفاسه وأحواله عليه الصلاة والسلام.
قوله: [ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل أن أهل الحديث -كثر تعالى سوادهم، ورفع عمادهم- لهم نسبة خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلاً عن الناس أجمعين؛ لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العلياء وأحواله الكريمة، وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم وخياله وجهه الوسيم، ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، وقال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم وقد اختلفوا في ذلك: فقال مجاهد وقتادة: أي: نبيهم وهذا كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس:٤٧].
وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
انتهى.
وقد ورد في فضيلة علم الحديث وأهله أحاديث كثيرة، وأنا أقتصر هاهنا على ذكر خمسة: