[شرح حديث كفارة وطء الحائض]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الكفارة في ذلك.
حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس (عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بنصف دينار).
حدثنا الحسين بن حريث قال أخبرنا الفضل بن موسى عن أبي حمزة السكري عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار).
قال أبو عيسى: حديث الكفارة في إتيان الحائض قد روي عن ابن عباس موقوفاً ومرفوعاً، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقال ابن المبارك: يستغفر ربه ولا كفارة عليه، وقد روي نحو قول ابن المبارك عن بعض التابعين منهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وهو قول عامة علماء الأمصار].
قوله: (عن خصيف) بضم الخاء المعجمة، وفتح الصاد المهملة، مصغراً، وهو ابن عبد الرحمن الجزري، صدوق سيئ الحفظ، خلط بآخره، ورمي بالإرجاء، كذا في التقريب.
وقال في الخلاصة: ضعفه أحمد ووثقه ابن معين وأبو زرعة، وقال ابن عدي: إذا حدث عنه ثقة فلا بأس به.
قوله: (عن مقسم) بكسر الميم وإسكان القاف وفتح السين المهملة، وهو ابن بجرة أو نجدة، ويقال له مقسم مولى ابن عباس؛ للزومه له، وإنما هو مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقد ضعفه بعضهم بغير حجة، قال أحمد بن صالح المصري: ثقة ثبت لاشك فيه.
وقال العجلي: مكي تابعي ثقة.
ووثقه -أيضاً- يعقوب بن سفيان والدارقطني وغيرهم.
قال صاحب كتاب (تحفة الأحوذي) رحمه الله: قوله: (إذا كان دماً أحمراً فدينار، وإن كان دماً أصفراً فنصف دينار)، قال المنذري: هذا الحديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، فروي مرفوعاً وموقوفاً ومرسلاً ومعضلاً.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لـ شعبة: إنك كنت ترفعه؟ قال: إني كنت مجنوناً فصححت، وأما الاضطراب في متنه فروي بدينار أو نصف دينار على الشك، وروي: يتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار، وروي: إذا كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار، وروي: إن كان الدم عبيقاً فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة فنصف دينار.
انتهى كلام المنذري.
وقال الحافظ في التلخيص: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير.
انتهى.
قلت: لا شك أن في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلافاً كثيراً، لكن مجرد الاختلاف قليلاً كان أو كثيراً لا يورد الاضطراب القادح في صحة الحديث، بل يشترط له استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجحت رواية من الروايات المختلفة من حيث الصحة قدمت، ولا تعل الرواية الراجحة بالمرجوحة، وهاهنا رواية عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: (فليتصدق بدينار أو بنصف دينار) صحيحة راجحة، فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح، إلا مقسماً الراوي عن ابن عباس فانفرد به البخاري، لكن ما أخرج له إلا حديثاً واحداً، وقد صحح هذه الرواية الحاكم وابن دقيق العيد وقال: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس، فقيل: تذهب إليه؟ فقال: نعم.
ورواية عبد الحميد هذه لم يخرجها الترمذي وأخرجها أبو داود، قال: حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن شعبة حدثني الحسن عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: (يتصدق بدينار أو نصف دينار)، قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة قال: دينار أو نصف دينار، ولم يرفعه شعبة، فرواية عبد الحميد هذه صحيحة راجحة، وأما باقي الروايات فضعيفة مرجوحة، لا توازي رواية عبد الحميد، فلا تعل رواية عبد الحميد هذه بالروايات الضعيفة.
قال الحافظ في التلخيص: قد أمعن ابن قطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه، وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن قطان وقواه في (الإلمام)، وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به وفيه من الاختلاف أكثر مما في هذا الحديث، كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين ونحوهما، وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع في بعض ذلك ابن الصلاح.
انتهى كلام الحافظ.
وبالجملة فإن رواية عبد الحميد صحيحة، لكن وقع الاختلاف في رفعها ووقفها، فرفعها شعبة مرة، ووقفها مرة، قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذه الرواية المرفوعة: صححه الحاكم وابن القطان ورجح غيرهما وقفه، قال الشوكاني في النيل: ويجاب عن دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة، وكذلك وهب بن جرير وسعيد بن عامر والنضر بن شميل وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف قال ابن سيد الناس: من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه، وأما قول شعبة: أسنده لي الحكم مرة ووقفه مرة، فقد أخبر عن المرفوع والموقوف أن كلاً عنده، ثم لو تساوى رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه.
وقال أبو بكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة وهي واجبة القبول.
انتهى.
قلت: يؤيد ترجيح وقفها قول عبد الرحمن بن مهدي: قيل لـ شعبة: إنك كنت ترفعه؟ قال: إني كنت مجنوناً فصححت وبين البيهقي في روايته أن شعبة رجع عن رفعه، والله تعالى أعلم.
وعلى العموم نقول: السند الأول الذي ذكره المؤلف فيه خصيف وشريك، فهي رواية ضعيفة، والسند الثاني فيه عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف، لكن رواية عبد الحميد التي أخرجها أبو داود صحيحه، والاختلاف في وقفه ورفعه لا تضر، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فالموقوف لا يعارض المرفوع، والحديث فيه اختلاف كثير في السند وفي المتن، فمن العلماء من صححه، ومنهم من ضعفه، ومنهم من وصله، ومنهم من رفعه، والصواب أنه صحيح ثابت، فعلى هذا فإن من جامع زوجته وهي حائض فعليه أن يتصدق بدينار أو بنصف دينار، فهو على الخيار.
وعلى هذا فإنه يكون مخيراً بين الدينار وبين نصف الدينار، والدينار أربعة أسباع الجنيه، فإذا كان الجنيه سبعين فيكون عليه أربعين - قيمة الدينار - أو عشرين، على التخيير بينهما، وإذا كان الجنيه سبعمائة، فتكون قيمة الدينار أربعمائة، ونصف الدينار مائتين، فيتصدق بأيهما شاء, وهذا هو الصواب، أن عليه كفارة مع التوبة.