[شرح حديث طلق بن علي في ترك الوضوء من مس الذكر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر.
حدثنا هناد حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق بن علي -هو الحنفي - عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه).
وفي الباب عن أبي أمامة رضي الله عنه.
قال أبو عيسى: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك].
قال صاحب (تحفة الأحوذي): قوله: (وفي الباب عن أبي أمامة).
أخرجه ابن ماجه، وفي سنده جعفر بن الزبير، وهو متروك والقاسم وهو ضعيف.
قال الحافظ الزيلعي: وهو حديث ضعيف، قال البخاري والنسائي والدارقطني في جعفر بن الزبير: متروك، والقاسم أيضاً ضعيف.
قوله: (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) وبعض أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك.
قال الحازمي في كتاب (الاعتبار): وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى حديث طلق بن علي، ورأوا ترك الوضوء من مس الذكر، روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص في إحدى الروايتين، وسعيد بن المسيب في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وربيعة بن عبد الرحمن وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ويحيى بن معين وأهل الكوفة.
اهـ واستدل هؤلاء بحديث طلق بن علي المذكور في هذا الباب.
وأجاب ابن الهمام عن حديث بسرة بنت صفوان المذكور في الباب المتقدم بأن حديث طلق بن علي يترجح عليه بأن حديث الرجال أقوى؛ لأنهم أحفظ للعلم وأضبط، ولهذا جُعلت شهادة امرأتين بمنزلة رجل.
قلت: وهذه دعوى تحتاج إلى دليل.
قال: وفيه أن بسرة بنت صفوان لم تنفرد بحديث إيجاب الوضوء من مس الذكر، بل رواه عدة من رجال الصحابة، منهم: أبو هريرة، وحديثه صحيح كما عرفت، ومنهم عبد الله بن عمرو، وحديثه -أيضاً- صحيح كما عرفت، ومنهم جابر، وإسناد حديثه صالح كما عرفت، ومنهم زيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وتقدم تخريج أحاديثهم.
قلت: إذاً: فالقول بأن بسرة انفردت به من تعصب الحنفية المعروف، فقد رواه عدة من الصحابة.
قال: وأجاب بعضهم بأن حديث طلق أثبت من حديث بسرة، فقد أسند الطحاوي إلى ابن المديني أنه قال: حديث ملازم بن عمرو أحسن من حديث بسرة، وعن عمرو بن علي الفلاس أنه قال: حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة.
وفيه أن الظاهر أن حديث بسرة هو الأثبت والأقوى والأرجح، قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجا بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، كذا في (التلخيص).
وقال في حاشيته على شرح الوقاية: إن أحاديث النقض أكثر وأقوى من أحاديث الرخصة.
اهـ وأجاب بعضهم بأن حديث بسرة منسوخ بحديث طلق، وفيه أن هذا دعوى من غير دليل، بل الدليل يقتضي خلافه كما ستعرف عن قريب.
وأجاب بعضهم بأن المراد بالوضوء في حديث بسرة الوضوء اللغوي، أو غسل اليد.
وفيه أن الواجب أن تحمل الألفاظ الشرعية على معانيها الشرعية، على أنه قد وقع في حديث ابن عمر عند الدارقطني: (فليتوضأ وضوءه للصلاة).
وقال بعضهم: إن حديث بسرة وحديث طلق تعارضا فتساقطا، والأصل عدم النقض.
وذكر في المغني رواية عن أحمد في تعمد مس الذكر، فقال: فصل: فعلى رواية النقض لا فرق بين العامد وغيره، وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو أيوب وأبو خيثمة؛ لعموم الخبر، وعن أحمد: لا ينتقض الوضوء إلا بمسه قاصداً مسه.
قال أحمد بن الحسين: قيل لـ أحمد: الوضوء من مس الذكر؟ فقال: هكذا، فقبض على يده، وهذا قول مكحول وطاوس وسعيد بن الجبير وحميد الطويل، قالوا: إن مسه يريد وضوءاً وإلا فلا شيء عليه؛ لأنه لمس، فلا ينقض الوضوء من غير قصد، كلمس النساء.
قلت: هذه رواية مرجوحة.
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عيسى: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك، وهذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب].
قلت: وهذا كما قال البخاري.
قال رحمه الله تعالى: [وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة ومحمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه، وقد تكلم بعض أهل الحديث في محمد بن جابر وأيوب بن عتبة، وحديث ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر أصح وأحسن].
قوله: [وهذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب].
قال في الشرح: وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والطبراني وابن حزم، وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة، وضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون، كذا في (التلخيص).
قلت: الخلاف مشهور، لكن حديث بسرة أصح.
قلت: والصواب أن المس خاص باليد، ففي بعض الروايات: (من مس فرجه بيده فليتوضأ)، واليد إذا أطلقت فالمراد بها الكف، كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨]، والمراد الكف إلى الرسغ، والمراد بالكف ظاهره وباطنه.
وهذا قول عطاء والأوزاعي، وقال مالك والليث والشافعي وإسحاق: لا ينقض مسه إلا بباطن كفه؛ لأن ظاهر الكف ليس بآلة اللمس، فأشبه ما لو مسه بفخذه.
ولكن الصواب أن الباطن والظاهر سواء، فلا فرق في الكف بين ظاهرها وباطنها، وأما المس بالذراع أو الرجْل أو الفخذ فلا ينقض الوضوء.