[ما جاء من الرخصة في استقبال القبلة واستدبارها]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء من الرخصة في ذلك.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)].
وهذا الحديث في رواية الإمام أحمد: [قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، قال: أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبان بن صالح.
في مسند الإمام أحمد صرح ابن إسحاق بالتحديث].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر رضي الله عنه.
قال أبو عيسى: حديث جابر في هذا الباب حديث حسن غريب، وقد روى هذا الحديث ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة) حدثنا بذلك قتيبة، حدثنا ابن لهيعة.
وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من حديث ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه].
إذاً: حديث جابر هذا لا يصح على إطلاقه، والحديث أيضاً في سنده مجاهد بن جبر، وقد لد بعد وفاة جابر، وعليه فالحديث منقطع لا يصح على إطلاقه عن مجاهد.
لكن هذا الحديث قد روي عن مجاهد -بفتح الجيم وسكون الموحدة- أبو الحجاج المخزومي، مولاهم المكي، ثقة، إمام في التفسير وفي العلم، ومن خواص التابعين، مات سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث أو أربع ومائه، وله ثلاث وثمانون، عن جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام؛ وبذلك يكون ولادة مجاهد سنة سبع عشرة للهجرة، وقد مات جابر بالمدينة بعد السبعين، وبذلك يكون مجاهد قد أدرك جابر.
لكن تبقى مسألة الترجيح، ولا شك أن حديث أبي أيوب أرجح، وذلك لو قدر أنه صحيح الإسناد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد، حدثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح].
وهذا محمول على أنه في البنيان.
ولا يعترض النسيان في ذلك؛ لأن الرب سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:٦٤] فهو تشريع، والرسول مشرع عن ربه عز وجل.
قال الشارح: قوله: (فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) استدل به من قال: بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، وهذا لبعض أهل العلم، وجعله ناسخاً لأحاديث المنع، وفيه ما ثبت من أنها حكاية فعل لا عموم لها، فيحتمل أن يكون لعذر.
وقال في المنتقى عن هذا الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي.
انتهى.
وقال في النيل: وأخرجه أيضاً البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني، وحسنه الترمذي، ونقل عن البخاري تصحيحه، وحسنه أيضاً البزار، وصححه أيضاً ابن السكن، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بـ أبان بن صالح القرشي، قال الحافظ: ووهم في ذلك، فإنه ثقة بالاتفاق، وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط.
وعلى كل حال فهو محمول على أنه في البنيان، ولو حمل في غير البنيان فأحاديث أبي أيوب مقدمة، أي: أرجح وأصح؛ لأنه إذا تعارض الدليلان، فالقاعدة عند أهل العلم: أنه يجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع بينهما ينظر إلى التاريخ، فإن لم يعرف التاريخ يرجع إلى الترجيح، وإذا رجعنا للترجيح فلا شك أن حديث أبي أيوب أرجح ومقدم، هذا إذا صح، ولم يأت ما يدل على أنه في البنيان، ولأنه أصح في الصحيحين وغيرهما.