[ما جاء أن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد قال حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)].
هذا هو حديث القلتين، وقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، والراجح أنه لا بأس بسنده، وقد أخذ به جمهور العلماء والفقهاء، وقالوا: إن القلتين حد فاصل، فإذا بلغ الماء القلتين فإنه لا يحمل الخبث ولا يتنجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، أما إذا كان دون القلتين فإنه ينجس ولو لم تتغير أوصافه، فعملوا بمفهوم الحديث.
فقالوا: إن الحديث له منطوق وله مفهوم، فمنطوقه: أن الماء إذا بلغ القلتين فإنه لا ينجس ولا يحمل الخبث إلا إذا تغير أحد أوصافه، وهذا بالإجماع، أما إذا لم يبلغ القلتين فإنه ينجس بمجرد الملاقاة ولو لم تتغير أوصافه؛ عملاً بمفهوم الحديث.
وذهب بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم: إلى أن الماء لا ينجس إلا بالملاقاة، قليلاً كان أو كثيراً، وقالوا: إن مفهوم حديث القلتين ألغاه حديث أبي سعيد: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، فهذا الحديث ألغى مفهوم حديث القلتين، والمنطوق مقدم على المفهوم، وهذا هو الصواب.
وجمهور العلماء قد أخذوا بحديث القلتين كما ذكرنا -حديث ابن عمر - وقالوا: إن ما كان دون القلتين فإنه ينجس، والقلة تقارب قربتين ونصف، يعني: تكون إلى خمس قرب، وقد حددها بعضهم بأنها: ذراع وربع، طولاً وعرضاً وعمقاً، فإذا كان هناك حفرة طولها ذراع وربع، وعرضها ذراع وربع، وعمقها ذراع وربع، فهذه هي القلتان.
والحديث يفيد أنه ينبغي للإنسان أن ينتبه ويتأمل في الماء القليل إذا أصابه نجاسة، هل تغير أو لا؟ فأما إذا كان أكثر من القلتين فالغالب في هذه الحالة أنه لا يتغير.
وبعض المساجد يكون فيها خزان واسع، فتسقط فيه طيور أو حمام، فإذا تغير الطعم أو اللون أو الريح فإنه ينجس، ويلزم إزالة هذا الماء كله، وأما ما جاء في الفأرة لما وقعت في السمن، قال: (ألقوها وما حولها وكلوه) فهذا في السمن الجامد، والمعروف أن السمن أقل ميوعة من الماء، فالماء ما فيه إشكال، وفي رواية: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان ذائباً فلا تقربوه)، لكن هذه رواية ضعيفة.
قال المصنف رحمه الله: [قال عبدة: قال محمد بن إسحاق: القلة هي الجرار، والقلة التي يستقى فيها.
قال أبو عيسى: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغير ريحه أو طعمه، وقالوا: يكون نحواً من خمس قرب].
واستدلوا بحديث الباب، وأما حديث الشافعي وأحمد، فهو حديث صحيح قابل للاحتجاج، وقد ضعفه جماعة، لكن الحق أنه صحيح، قال الحافظ أبو بكر العراقي في أماليه: قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من الأئمة الحفاظ: الشافعي وأبو عبيد وأحمد وإسحاق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والدارقطني وابن مندة والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون.
وقال الحافظ في (فتح الباري): رواته ثقات، وصححه جماعة من أهل العلم.
وقال فيه أيضاً: الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترض الطحاوي من الحنفية بذلك، وقال في بلوغ المرام: صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وقال في (التلخيص): قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقد احتج بجميع رواته، وقال ابن مندة: إسناده على شرط مسلم، وقال ابن معين: الحديث جيد الإسناد، وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريق الفقهاء؛ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد مختلفاً في بعض ألفاظه، فإنه يجاب عنه بجواب صحيح بأن يمكن الجمع بين الروايات.
انتهى ما في (التلخيص).
والذين لم يقولوا بحديث القلتين، فمنهم من صرح بصحته، واعتبر العمل به من الإجمال في معنى القلة، قال الحافظ في (الفتح) قول: من لا يعتبر إلا التغير وعدمه قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى؛ لصحة الحديث، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به، فإن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة، كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما، فيكون، مجملاً فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغير بين].