المسلم دائماً يلتجئ إلى الله ويبحث عما يحبه الله ويحب الخير للناس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس)، لا زالت التربية المزدوجة تؤثر على الغلام، لا زال متردداً بعض التردد، لكنه يميل إلى الحق ميلاً عظيماً، نفسه تحدثه أن الحق مع الراهب، لكن عنده بعض التردد من آثار التربية المزدوجة التي ينشأ عليها كل طالب علم يعلمه أهل الحق في مجتمع مليء بالجهل والظلم والعدوان.
نقول: هذا الغلام مال إلى الراهب وإن كان ظاهر حاله أنه متردد، والدليل على ذلك: أولاً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب) فهو دعا الله عز وجل، فالفطرة الإنسانية مشدودة مجذوبة جذباً ضرورياً للتوجه إلى الأعلى عندما يكون في شدة أو في التباس أو في أمر لا يدري كيف يعمل فيه، فإنه يدعو إلى الله عز وجل، ويلتجأ ويصمد إليه، فهو قال: (اللهم) ولم يقل: أيها الملك؛ لأن الساحر يقول له: هو الرب، بل يقول له: لا رب لك غيره، كما قال له الملك بعد ذلك: (أو لك رب غيري؟)، فلم يقل: يا أيها الملك إن كان أمر الراهب أو الساحر أحب إليك، إنما قال: (اللهم إن كان أمر الراهب)، فهذا الدعاء قطعاً تعلمه من الراهب ووافقته الفطرة.
حدثني بعض الإخوة في زمن مضى أنه كان في بعض بلاد الكفر، وكان يخرج أحياناً مع بعض الدعاة ويدعون السكارى في آخر الليل إلى أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ويدخلوا في الإسلام، فيلقى الرجل السكران ملقاً على الطريق، وهو في سكره الكامل، فيذكره بالموت وبالله، فيرفع السكران يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، فسبحان الله! وهم إذا أفاقوا ربما أنكروا وجود الله بالكلية، لكن النفس الإنسانية مشدودة بقوة، ومجذوبة إلى التضرع إلى الله عز وجل.
فلجأ هذا الغلام بما تعلمه من الراهب قطعاً، فإنه لم يتعلم الدعاء من الساحر.
ثانياً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، فهو يبحث عما يحبه الله، وهذا الأمر بالتأكيد لم يتعلمه من الساحر؛ لأن الساحر يعلمه البغض والكراهية، وهو يريد الأمور التي يحبها الله عز وجل، وهذا المعنى يربي عليه الحكماء والعلماء والأنبياء أبناءهم، افعل ما هو أحب إلى الله، ألم تسمع قول لقمان وهو يعظ ابنه يقول: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٨]؟ فبماذا خوفه؟ لم يخوفه بالنار في هذا الموضع، وإن كان سيذكره في موضع آخر، لكن مبنى الأمر أن هذا الشيء لا يحبه الله، وهذا أعجب ما يطلبه الإنسان أن يفعل ما يحبه الله، وأعظم دافع للعبادة أن يذوق حلاوة حب الله عز وجل، وحلاوة ما يجد من عبادته والبحث عن مرضاته.
ثالثاً: أنه أراد قتل الدابة، وهي حيوان عظيم حبس الناس عن مصالحهم، فهو يريد أن يقتلها ليمضي الناس، وهو بلا شك غلام صغير يرمي بحجر تبلغه يده، تأمل غلاماً من غلماننا ماذا تحمل يده من حجر؟ كم يبلغ وزن هذا الحجر؟ وكم يبلغ حجمه؟ وماذا يؤثر في حيوان قد أرعب الناس كأسد مثلاً أو غير ذلك؟ وكم تبلغ ضربته إذا رماها عن بعد؟ فإنه بالتأكيد يرميها من بعد حيث يقف داعياً ثم يرمي، وهذا بلا شك يدل على أنه يرمي بضعف ولا يرمي بقوة، ولكنه يلجأ إلى الله عز وجل أن يجعل في رميته القوة ليمضي الناس، فهو يحب الخير للناس ولا يريد الشر بهم، يريد الخير لهم في دينهم ودنياهم، وهذا والله من أعظم ما يفتح القلوب، أن يعرف الناس أنك لهم ناصح، وأنك تريد بهم الخير.
ولو تأملنا في قصة مؤمن آل ياسين لأحببنا ذلك الرجل حباً لابد منه، فعلاً نجد قلوبنا تحبه؛ لأنه يحب الخير للناس حيث يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧]، وقد فسر السلف هذه الآية وقالوا: لا تجد المؤمن إلا ناصحاً لقومه في الدنيا والآخرة.
فالنفس مجبولة على قبول وحب من يحب الخير لها، وكان هذا مفتاح الخير، فاحرص على أن تكون صانعاً للخير محباً للخير للناس، لست تريد أن تقيم عليهم حجة ليدخلوا بها النار، ونحن نعلم أن هذا من ضمن آداب الدعوة، لكن هدفنا الأصلي هو: أن يؤمن الناس، أن يرجعوا إلى الله، وإن لم يؤمنوا فقد أعذرنا إلى الله بإقامة الحجة، لكن هناك من الناس من تكون همته أن يخرج الناس من الملة مثلاً، وأن يقيم عليهم الحجة، نيته الحكم عليهم! وهذا خلل كبير، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦]، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك، مع أن الله يحب منه حبه للخير، ولكن من باب الرفق به؛ لأن مصلحة الرفق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن يستمر بالدعوة، أعظم من مصلحة إهلاك نفسه حزناً عليهم ألا يؤمنوا، فسبحان الله! فحب الخير للناس أمر يحبه الله وإن لم يقع موقعه، كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام عندما جاءته البشرى قال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:٧٤ - ٧٦]، فهو يجادل في قوم حق عليهم الهلاك، ولن تقبل فيهم شفاعة، ومع ذلك مدحه الله عز وجل؛ لأنه بين عز وجل أن السبب الذي أداه إلى المجادلة أنه حليم أواه منيب، متضرع إلى الله، عنده حلم ورفق بالعباد، فالله يحب هذه الخصال من عباده، والله يحب من عباده الرحماء، فحب الخير للناس من أسباب فتح القلوب، ومن أسباب الاستجابة لأمر الله عز وجل.
فحب الخير للناس تعلمه الغلام من الراهب، أما الساحر فإنه يعلمه كيف يؤذي، كيف يضر، كيف يوقع بين الناس، كيف يفرق بينهم، كيف يجعلهم شيعاً متفرقين ليتمكن من السيطرة عليهم، وهذا ما يفعله كل ملوك الدنيا هم وسحرتهم وأعوانهم، همهم كيف يفرقون بين الناس، ليظل الملك والسلطان لهم، والسحرة يقومون بهذا الدور جيداً، فالأمر الذي وقع من هذا الغلام أنه أراد مصلحة الناس، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، فدعا الله عز وجل ورمى الدابة فقتلها.
رابعاً: أنه أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى حيث قال: (فاقتل الدابة) فهو رغم ضعفه وضعف رميته وصغر الحجر، أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى على قتل هذه الدابة العظيمة.
خامساً: أنه قدم في كلامه أمر الراهب على أمر الساحر فقال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، وهذا كله يدل على ميله الفطري والطبيعي إلى اتباع أمر الراهب.