[إثبات البعث وقيام الساعة ببعث أهل الكهف من رقادهم]
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:٢١] أي: أطلعنا عليهم الناس، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) قال ابن كثير رحمه الله: ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.
وعلى هذا التفسير فالضمير في قوله: ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة وبعث الأجساد حق، وأن الساعة ريب فيها.
ثم قال: وذكروا أنهم لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة -أي في غير جادة الطريق ووسطه- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس أو دكسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مسّاً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة، ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة لعله وجدها من كنز؟ وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف: ملك البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل واسمه: يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل.
فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، - حبيب بن مسلمة أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم- فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم قبل أكثر من ثلاثمائة سنة.
رواه ابن جرير أي: الله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن.
ثم قال ابن كثير: وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:٢١] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ))، وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) وليس على واحد منهم فقط، فهذا رد على من يقول: إنهم لم يجدوا لهم خبراً.
يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:٢١] أي: في أمر القيامة: فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.
أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين ممن لا يؤمن بيوم القيامة كذلك.
{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:٢١] قال ابن كثير رحمه الله: أي: سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١]، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم أهل الشرك منهم.
فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ يحذر ما فعلوا).
وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها.
والرقعة لوح مكتوب مثل الأوراق عندنا، لكنها جلد أو نحو ذلك في ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم ذلك النبي، وقد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه وظنه غيرهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم.
إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأولياء أيضاً، فالمقصود أنه أخفي قبره، وسيأتي لنا بحث في ذلك إن شاء الله.