الذي يظهر من سياق الآيات في هذه القصة: أن عزلة أهل الكهف كانت من النوع الواجب؛ لأنهم قالوا:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:٢٠]، وذلك يدل على أنهم لو بقوا لأكرهوا على الكفر.
والعياذ بالله! قال طوائف من العلماء: إن الإكراه لم يكن عذراً للأمم السابقة بل كان فرضاً عليهم أن يصبروا ولو قتلوا، وأن الله وضع عن هذه الأمة فقط الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وهناك أدلة كثيرة على خلاف هذا القول، وأن الإكراه معتبر عموماً، من ذلك قوله عز وجل:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}[غافر:٢٨]، وعموم الآية:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:١٠٦]، وحديث:(وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، لا مفهوم له على الصحيح؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يلزم ما ذكر في مقام الامتنان أن يكون غيره بخلاف هذا الحكم، فإن موسى عليه الصلاة والسلام ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال للخضر:{قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف:٧٣]، فقبل الخضر ذلك، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى، فالمؤاخذة بالنسيان الظاهر أنها ليست خاصة بالأمة، وكذا الخطأ، والله أعلى وأعلم.
فالذي يظهر أن الأدلة التي يستدل بها إنما هي في فضل من صبر على الإكراه، أو في فضل من يتحمل ذلك، أو في ذم من يستجيب لداعي الكفر عند الإكراه، ولا يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فإن الشرط الأساسي: أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، لكن من فتن فافتتن فإنه لا يكون ممدوحاً عند الله سبحانه وتعالى، ولا معذوراً كما قال عز وجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}[العنكبوت:١٠]، فهو يستجيب لداعي الفتنة.
وقد ذم الله المنافقين في قوله عز وجل:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}[الأحزاب:١٤]، وفي الأثر: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، وذكر قصة الرجلين اللذين مرا على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد إلا قرب له شيئاً، وقالوا لأحدهما: قرب شيئاً، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل فقتلوه فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب شيئاً، قال: لا أجد شيئاً أقربه، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار.
فهذا استجاب لهم دون أن يعرض على القتل، كما دلت عليه القصة والله أعلى وأعلم.
فهؤلاء الفتية خشوا على أنفسهم أن يستجيبوا للباطل وأن يتبعوه إذا أكرهوا عليه، فلذلك قال:{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:٢٠] أي: إن استجبتم لهم.