[ضوابط تقليد الكفار في هديهم عند الضرورة]
وهذا أمر يستفيد منه كل من كان مستضعفاً مثل أصحاب أهل الكهف، فلابد أن يكون حريصاً متلطفاً وألا يظهر أمره؛ حتى لا يؤخذ بغير ذنب حقيقي وإنما يؤخذ بمجرد إيمانه وإسلامه، وليس معنى ذلك أن يرتكب الحرام، أو أن يترك الواجبات طالما كان غير مضطرٍ إلى ذلك، والضرورة نعني بها: أن يكون مكرهاً بحيث يعلم أنه إذا أظهر فعله للواجبات أو أظهر تركه للمحرمات عوقب بما يعد في الإكراه عقوبة معتبرة، فإذا أيقن بذلك وكان عاجزاً عن التخلص بالفرار، فإنه يجوز له الموافقة في ذلك، وجاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من كان في دار الكفر فله أن يتشبه بالهدي الظاهر للكفار.
واستدل به بعض من لا يفهم الكلام على وجهه بجواز حلق اللحية في بلاد الكفار، أو في بلاد المسلمين التي يضطهد فيها المسلمون، ويقول: إن التشبه بالهدي الظاهر مشروع، اعتماداً على هذه الفتوى، وليس كذلك، وإنما مبنى الكلام على المعرفة بحصول الضرر المعتبر، وليس لمجرد أن يخفي نفسه، وألا يظهر أمره، فلا بد أن يكون هناك إكراه معتبر، ومن شروطه: أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وكذلك إذ كانوا جوعى ولا يوجد طعام بين أيديهم إلا أن يذهبوا إلى المدينة، فلا بد من التلطف والتخفي.
وأما في بلاد الكفار اليوم في أوروبا وأمريكا وغيرها حيث يملك الإنسان حريته في أن يفعل ما يشاء ولا يؤاخذ بشيء من ذلك، فهذا أمر لا يبيح له أن يقلدهم في هديهم الظاهر، ويتشبه بهم؛ لأن ذلك بمنزلة الضرورة، ولا ضرورة هنا.
فالذي يكون في بلاد الكفر فيتشبه بهم في كل مظاهرهم ولا يتميز بالمظاهر الإسلامية كإعفاء اللحية، أو الحجاب للمرأة المسلمة أو نحو ذلك، محتجاً بمثل ذلك، فإنه ضال جاهل، وكم من أناس تركوا الواجبات بمثل هذا الفهم السيئ، وإذا كانت البلاد الكافرة فيها ظلم وعدوان، فإنه لا يقلدهم في هديهم الظاهر إلا إذا كان الضرر حقيقياً معتبراً؛ وهو فوات الحاصل في النفس أو في المال أو في الجاه.
وأما إذا كان مجرد أذى كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:١١١]، كلوم الفاسق وغيبته وعتابه، واستهزائه بمسلم فليس ذلك من الضرر الحقيقي، وليس فيه فوات حاصل، وغيبة الفاسق لا تذهب الجاه، وأمثال هؤلاء لا عبرة بهم، ولا يخلو الإنسان الذي يعيش مع هؤلاء حتى ولو لم يكن مطيعاً لله من أن يجد ما يفعل به ذلك، ولذلك لا عبرة باللوم والعتاب، ولا عبرة بالغيبة.
وكذا ما كان من فوات الحاصل اليسير جداً، كأخذ الحبة من المال، أو الضربة الخفيفة، أو يوقف ويحبس دقائق، أو أجزاء من الساعة، أو بضع ساعات، كل ذلك لا يعد ضرراً حقيقياً؛ لأنه يسير كما قال الغزالي رحمه الله: إنَّ في فوات الحاصل من النفس والمال والجاه قدراً في القلة لا بد من إهداره، وقدراً في الكثرة لا بد من اعتباره، وموضع اشتباه وسط، يتقي الإنسان ربه عز وجل ما استطاع، ويرجح جانب الدين ما استطاع، ولكن موضع الاشتباه هو التوسط في ذلك.
يعني: إذا كان الأذى شيئاً يسيراً جداً فليس بضرر، والتلطف لا يكون بفعل المنكر، ولا يكون بترك الواجب، وكثير من الناس كمن يترك صلاة الجماعة مثلاً والجمعة لأدنى توهم، أو تترك المرأة الحجاب الشرعي لأجل أن توافق النساء المتبرجات مثلاً، فليس هذا مما يجوز أبداً في تلك الأحوال، واللحية من ذلك إذا كان الأمر على ما وصفنا، إلا إذا غلب على الظن أنه مثلاً إن سار في الطريق أمسك وعذب أو ضرب أو حبس مدة طويلة معتبرة، أو أخذ ماله، وهو عاجز عن أن يذهب إلى بلد أخرى.
والإنسان لا يجوز له أن يقيم بمكان يعصي الله عز وجل فيه وهو قادر على الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧].
ونحن نعلم أن أصحاب الكهف هاجروا واعتزلوا قومهم، وتركوا بلدهم لله سبحانه وتعالى؛ لكي يتمكنوا من طاعة ربهم عز وجل، وإذا كان في الأمر أصل الدين فهو كذلك في فروعه، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه كالذي لا يستطيع أن يوحد ربه سبحانه وتعالى، فإن أرض الله واسعة، وأما إذا كان عاجزاً عن الهجرة أو ممنوعاً عنها، أو أنه لا يجد أرضاً يعبد الله فيها؛ لاستفحال الشر فهو معذور؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦].
وهنا يمكنه أن يتلطف وأن يتخفى بالتشبه بهم في هديهم الظاهر، والله أعلى وأعلم، ولكن الأصل أنه لا يتشبه بهم في هديهم الظاهر ولا الباطن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).