[أهمية استغلال الداعية حاجة الناس الدنيوية لإيصال الحق إليهم]
نلحظ أيضاً الفقه العظيم في هذا الغلام في استغلال فرصة احتياج الناس إليه في أمور دنياهم، ليوصل إليهم دعوة الحق، ويسد احتياجهم الأشد إلى أمور دينهم وأخراهم، ويجعل علاج أمراضهم الظاهرة -وهي التي يسعون لعلاجها والتخلص من ضررها- وسيلة لعلاج أمراضهم الباطنة، وهي أمراض القلوب، وأعظمها خطراً الكفر والنفاق، وهي التي لا يسعون إلى علاجها، ولا يشعرون بوجودها وضررها، مع أنها أضر عليهم.
فعمى القلب أخطر من عمى البصر، ومع ذلك فالناس إنما يبحثون عن علاج عمى الأبصار، ولا يبحثون عن علاج عمى القلوب، بل ربما ماتت القلوب ولم يبحث أصحابها عن طبيب في حياتهم، وهل هناك وجه للمقارنة بين ضرر المرض الظاهر -وهو إن استمر وأزمن أضر بالإنسان في لحظات وساعات أو قل في سنوات- وبين ضرر المرض الباطن الذي إن لقي العبد ربه به أضر به في النار أبد الآبدين؟! ومع ذلك أكثر الناس لا يبحثون عن دواء لأمراض قلوبهم، وبسبب مرض بسيط يذهب الواحد منهم إلى الطبيب خصوصاً في زماننا الذي كثر فيه الذهاب إلى الطبيب لأدنى سبب، أما أن يبحث الإنسان عن أمراض قلبه ويبحث لها عن طبيب، فإنها تكاد تقتل؛ بل قد قتلت، فإنك لا تجد من يداوي قلبه إلا من رحم الله.
فالداعية الشفيق يجعل حاجة الناس في دنياهم سلماً للوصول إلى غايته في إصلاح أخراهم، ويمكنه أن يشترط عليهم ألا يقضي حاجتهم التي يقضيها الله عز وجل عن طريقه إلا بأن يلتزموا بالإيمان والطاعة، ويكون مثل هذا الغلام الذي قال:(فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، يشارطه: إن تؤمن أدع لك، وإن تؤمن أقض لك الحاجة.
وأم سليم حين خطبها أبو طلحة وهو كافر جعلت مهرها إسلامه، فأسلم صدقاً، فتزوجته، واعجب بهذا الموقف الرائع! إنها امرأة عظيمة الحب لدينها، فقد جعلته يغير موازينه بالفعل، ولم يسلم من أجلها، ولم يسم -مثلاً- مسلم أم سليم كما كان مهاجر أم قيس، لم يسم كذلك، بل كان من أصدق الأنصار إيماناً والتزاماً وإخلاصاً؛ ولكن موقفها غير موازينه، فإنه كان يعرض مهراً وهو رضي الله عنه من الأغنياء، لكن موقف أم سليم أنها ما تريد إلا إسلامه، وأنه لا يرد لولا كفره، جعله يسلم من أجل ذلك صدقاً، وتزوجها وتزوجته فكان إسلامه مهرها، ونعم المهر كان! ولا يضر الناس ولا الداعي أن الناس إنما يستجيبون للحق أولاً لمصلحتهم الدنيوية؛ فإنهم لن يمسوا إلا والحق أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فإن أكثر الناس يعادون الحق لأنهم يجهلونه، فإذا علموه زالت العداوة، كما في هذه القصة العظيمة.
ويمكن أن يقضي الحاجة قبلها، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام، فإنه في أحوال مختلفة استعمل هذا الأمر بدرجات مختلفة، فمع صاحبيه في السجن عندما سألاه تأويل الرؤيا التي أقلقتهم، وكل منهما كان يريد أن يعرف مصيره في الخروج من السجن، وهذه حاجة دنيوية، فإن يوسف أخر الإجابة إلى أن عرض عليهم دعوة الحق، فعرفهم دعوة التوحيد أولاً، ثم بين لهم تأويل الرؤيا.
وعندما طلب منه تأويل رؤيا الملك كان يمكن أن يشارط، ولو شارط لأجيبت شروطه، لكنه أجاب بدون شروط؛ ليبين لهم حقارة أمر الدنيا بأسرها بما فيها أمر السجن، وأن السجن وعدمه بالنسبة له سواء، فسواء عنده الخروج أو الدخول، فلم يشارط ولم يقل: أولاً أخرجوني من السجن، بل ترك ذلك؛ لعظيم صبره وزهده في الدنيا، واستهانته بزخرفها، وهذا عند المترفين من الناس من أكثر ما يؤثر في نفوسهم، ويجعلهم يعيدون النظر في موازينهم، فالملك استغرب جداً من أنه عبر هذا التعبير الرائع، وفي نفس الوقت هو في السجن، وهذا فقال:{ائْتُونِي بِهِ}[يوسف:٥٠] أي: أخرجوه من السجن، من دون أن يقول لهم: أخرجوني، لكن سيدنا يوسف عليه السلام قال للرسول: لا، ارجع إلى ربك، أي: أنه لن يخرج حتى تثبت برآته، فبحث الملك حتى يعرف برآته، ثم قال:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}[يوسف:٥٤] أي: أحتاج إلى استخلاصه لنفسي فقط، يريد أن يكون له هو، ولا شك أن هذا يستعمله الداعية مع نوعية معينة من الناس؛ لأن الداعية إلى الله يستعمل الأمور حسب المصلحة، وحسب شدة الحاجة، وحسب نوعية الناس، فيمكن أن يؤخر قضاء الحاجة الدنيوية إلى أن يتم عرض الدعوة، ويمكن أن يقضي الحاجة الدنيوية أولاً دون مشارطة، ثم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، خصوصاً عند المترفين وعند أهل الدنيا، فإن ذلك يؤثر فيهم تأثيراً أقوى، والله أعلى وأعلم.