للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فرار الفتية بدينهم طلباً للرحمة

قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:١٠].

فالرحمة تطلب من الله عز وجل: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) فهذه الرحمة بأن يسترهم ويحفظهم وينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء، وهم فروا بدينهم؛ ليثبتوا عليه، فهو أحب إليهم من كل شيء، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى، وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه يريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، والرحمة المطلوبة في هذا الموضع هي ستر الله عز وجل عليهم، لنجاتهم ممن يريد أن يفتنهم ويصرفهم منه.

فالإنسان إذا ثبت على الدين فإنما هو بسبب رحمة الله له، فعليه أن يٍسأله المزيد من التوفيق والثبات، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان يمر بمواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته، يتخذ فيها قرارات إما أن يسير يميناً وإما أن يسير شمالاً، إما أن يستجيب لداعي الغي الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد؛ ليتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً لا يسلك غيره، فهناك لحظات تاريخية في حياة الإنسان يتخذ فيها قراراً حاسماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين.

هكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم ما قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بدينهم ثباتاً عليه، وإيثاراً له، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى، وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سوف يصنعون بعد ذلك؟ وإلى أين يذهبون؟ لا يدرون، إنما يريدون الثبات على الدين؛ ولا يدرون كيف يكون عملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يدركها، إنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، فنجاه وهداه الله عز وجل سواء السبيل.

قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:١١]، فكان من هداية الله لهم أن ضرب الله على آذانهم بحيث إنهم صاروا لا يسمعون، وهذا من الآيات البينة المعجزة، فإن الإنسان وهو نائم- كما أثبتت الدراسات الحديثة، وكما هو ظاهر ممن ينظر إلى النائم- حواسه كلها غير مدركة، إلا حاسة السمع فهي أعظمها إدراكاً، فلو أنك حاولت أن توقظ النائم بأنواع من الحركات، كالضوء الشديد وغير ذلك ما شعر بشيء من هذا، فبصره أغلقه أو لم يغلقه -لأن بعض النائمين يفتحون أعينهم أحياناً- يكون في أعمق فترات السبات والسكون، وكذا الشم والذوق، وأكثر حاسة يمكن أن تحرك الإنسان النائم هي الأذن التي يسمع بها؛ لذلك إذا ضرب على أذنه لا يمكن أن يستيقظ إلا أن يوقظه الله سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:١١]، أجملها هنا ثم بينها بعد ذلك بأنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين.

وقال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ))؛ لأن الموت أخو النوم، وهو آية من آيات الله على البعث، وهذه القصة مما ذكره الله عز وجل في أدلة الإيمان بالبعث، ذلك أنهم ناموا نوماً مثل الموت، وبقيت الأبدان محفوظة بلا غذاء، ولكن يمكن أن يعرف ذلك في الواقع المشهود، فهناك كائنات تستكين وتنام نوماً طويلاً تستهلك فيه أقل جزء من الطاقة، ثم تستيقظ بعد شهور، فقدر الله لهؤلاء بقدرته العظيمة سبحانه وتعالى أن يظلوا في نومهم أحياء نائمين، ((ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا))؛ ليدلنا على قدرته على البعث والنشور، وكذلك ليعلم العباد ((أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، ليعلموا أنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، ولذا وجب عليهم أن يفوضوا الأمر إلى الله، ويردوا العلم إليه سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>