قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه).
فقد وصل جنود الملك إلى مصدر الدعوة والرأس المدبر لها، فكان لا بد من رجوعه عن الدين الجديد حتى يرجع من اتبعه عليه، ومنهم الغلام وجليس الملك، فأمر بالرجوع بلا مواربة ودون تلطف كالذي تم مع الغلام، ولماذا لم يستعمل معه نفس الأسلوب الذي استعمله مع الغلام؟ فلم يتلطف معه بأن يقول له مثلاً: أيها الشيخ الكبير ونحو ذلك، لا، فلم يكن هناك وقت لذلك؛ لأن هذا الرجل ليس بمشهور لدى الناس، فلن يكون هناك ضرر كبير لقتله في نفوس الناس، ولن يكون هناك نفس القدر من الإنكار لدى العامة لو أنه قتل الغلام مباشرة؛ ولذا كان الغلام آخر من حاول الملك قتله؛ لأنه يعلم أن قتله سوف يرد المجتمع إلى الدين الحق، وفي قتله خطر كبير؛ لأنه صار رمزاً للدعوة، فلو أنه قتله لارتج العامة مع حبهم له، لذلك كان الأسلوب المتدرج مع الغلام، بخلاف الراهب فكان دون مواربة؛ لأن مسئولية من يقف أمام الناس يتكلم باسم الدين أعظم من الذي علمه الدين سراً فيما بينه وبينه.
فقد قتل الملك الكافرُ الظالمُ الأستاذَ الأولَ لدعوة التوحيد في هذا المجتمع بأشنع قتلة، ولم يتحرك لذلك الناس قيد أنملة لنشر رجل بالمنشار حتى يسقط نصفين، بل وللرجل الثاني من جلسائه كذلك؛ هذا لأن دعوته لم تكن علانية، بل كانت لفرد واحد وفي السر، وربما هناك أفراد لم يذكروا في هذه القصة والله أعلم.
وكان قتل الراهب بهذه الطريقة المقصود به إرهاب وإرعاب الغلام؛ لعل الغلام يرجع عن موقفه أمام الناس علانية كما دعاهم إلى التوحيد علانية، فهذا خطر إن داهن أحد في الحق وتكلم بالباطل، أو كتم دعوة الحق، لماذا تحمل الإمام أحمد رحمه الله ما تحمل؟ لأن الناس كلهم نظروا إلى الإمام أحمد ماذا سيقول، فلو أنه لم يثبت على الحق عندما اشتد عليه التعذيب لضل الناس، ولكن الله عز وجل جعله إماماً في الحق.
ولنتأمل أيضاً في هذا الجزء من القصة في صبر الراهب العابد على هذه القتلة الفظيعة؛ وهي النشر بالمنشار حتى ينفصل إلى قطعتين، ومصداق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قال له أصحابه:(ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، رواه البخاري.
فإذا تذكرنا أن الراهب في بداية الأمر طلب من الغلام إن ابتلي ألا يدل عليه علمنا ما يلزم أن يكون عليه حال المؤمن الصادق، فلا يسأل الله البلاء ولا يتمنى وقوعه، بل يسأل الله العافية ويأخذ بأسباب العافية، فإذا نزل البلاء كان عند ذلك رجلاً صابراً محتسباً يهون عليه عذاب الدنيا، ولا يفرط أبداً في دينه، فإن قيل: ألم يكن يسع الراهب وهو يكره على الكفر بمثل هذه القتلة الفظيعة أن يأخذ بالرخصة، ويوافق ظاهراً على الرجوع عن الدين مع طمأنينة القلب بالإيمان؟ فالجواب من أحد وجهين: الأول: أن هذا الراهب أخذ بالأفضل وهو الأخذ بالعزيمة، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء، كحال بلال عندما أكره أن ينطق بكلمة الكفر، فكان لا يجد كلمة أغيظ للكفار من: أحد أحد، فيزيدون في تعذيبه، وهانت عليه نفسه لله، فيزداد: أحد أحد، وأما عمار فأخذ بالرخصة، وبلال أفضل في هذا الموقف بلا نزاع، فالصبر على العزيمة في هذا المقام أفضل من الأخذ بالرخصة.
الثاني: أن الإكراه كان عذراً لأمة الإسلام دون الأمم السابقة، والله أعلى وأعلم.
والأول أظهر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، مفهوم المخالفة فيه من مفهوم اللقب، ولا يلزم أن الأمم السابقة ليست كذلك.