ذكر الله عز وجل هذين الاسمين الكريمين من أسمائه الحسنى: العزيز الحميد، فالله عز وجل عزيز في انتقامه من أعدائه، وهو عزيز يعز عباده المؤمنين، وينصر عباده المستضعفين، وهو سبحانه وتعالى عزيز لا يغالب، أراد ذلك الملك أن يغالب ربه عز وجل، وأن يمنع وصول الإيمان إلى القلوب، وفعل هذه الأفاعيل لأجل ذلك، ومع ذلك وصل الإيمان إلى القلوب، واهتدى من أراد الله هدايته، وانتصر من أراد الله نصرته، ومن يغالب الله عز وجل يغلب؛ لأنه العزيز سبحانه وتعالى، فهو ينصر عباده المؤمنين بأسباب لا يقدر عليها الأعداء، وليست من صنع المؤمنين، بل هو الذي يصنعها عز وجل لعباده.
وأما اسم الحميد فهو سبحانه الذي يستحق الحمد على ما قدَّر وعلى ما شرَّع، كما سمعنا من كلام ابن كثير رحمه الله، فإنه قدر هذا الأمر المؤلم من الابتلاء الشديد، وقدر سبحانه وتعالى تسلط الكفرة مدة من الزمن على المؤمنين، وتمكنهم من تعذيب المؤمنين، ويملي لهم ذلك سبحانه وتعالى، وله الحمد على كل حال.
من تأمل هذه القصة العظيمة وما جرى فيها، لابد أن يحمد الله، وهي قصة تحيي قلوب المؤمنين، ويجدون فيها من أنواع الخير ما تنغمر فيه مفسدة ما جرى للمؤمنين، وما حدث من تسلط الكافرين مدة من الزمن، إلى جانب المصالح الهائلة التي في هذه القصة، فلو لم يكن فيها إلا إيمان المؤمنين، ثم شهادتهم في سبيل الله، ثم ما نالوا بعد ذلك من الفوز العظيم عند الله، فكم هي تلك المدة بالنسبة إلى مرور السنين الآن؟ وما هو أثر تسلط هؤلاء الظلمة تلك المدة، إذا نظرنا إليها الآن؟ لا شيء على الإطلاق، لا ذكر لهم بالخير، وإنما يذكرهم أهل الإسلام بالطرد واللعن فقط، وهم لم يؤثروا في واقع الحياة وفي الأرض التي نعيش فيها، بل انتهى أمرهم بالكلية، وبقيت حياة المؤمنين الشهداء في برزخهم، وبقي فوزهم العظيم يوم القيامة فله الحمد عز وجل.
فإياك أن تقول: لماذا يا رب يفعل هؤلاء ذلك بعبادك المؤمنين؟ إياك أن تقول ذلك معترضاً، إياك أن تقول: إلى متى يا رب سوف نظل يصيبنا ما يصيبنا؟ إياك أن تقول: إن الإنسان قد ضاق صدره، وأوشك أن يترك الطريق من أجل ما يقع من الظلم، بل احمدِ الله عز وجل على تسلط الكفرة وقتياً؛ ليزداد إيمانك أنت وإيمان من بعدك، فإذا صبرت وكنت قدوة في الحق، وكنت ثابتاً على طريق الحق، فزت في حياتك، وفي برزخك، ويوم القيامة، وينتفع من بعدك بثباتك وصبرك، فأنت إذا قرأت قصص الأنبياء والأولياء عرفت فائدة المحنة، وتعرف فضل الله عز وجل على خلقه، واستحقاقه الحمد على ما قدر، بل هذه القصص في الحقيقة من أعظم أسباب التربية الإيمانية لدى عباد الله المؤمنين، لو كانت الأمور دائماً سهلةً والنتائج دائماً مضمونةً، وكل من يسير في طريق الحق يأخذ النصر سهلاً، وكان الطريق مفروشاً بالورود؛ لما كان للإيمان ذلك الطعم الذي يجده من يصبر على طاعة الله عز وجل في أحلك الظروف، ولما كان شعور المؤمنين بعظم فضل الله عز وجل عليهم بالهداية، وعظم فضله عليهم بالجنة، فلو أن الجنة كانت رخيصة الثمن ما شعروا بفضلها، وإنما هي فعلاً غالية، ولذلك له الحمد عز وجل، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى.
إياك أن تظن أن الله عاجز عن إعزاز عباده المؤمنين، كيف والعزة هي صفته؟! إياك أن تظن أن الابتلاء يقع من غير حكمة، كيف والحمد صفته سبحانه وتعالى فهو العزيز الحميد؟! وإياك أن تظن أيضاً أن ذلك كان لخروج شيء عن ملكه عز وجل، وأن ملكه محصور في السماوات فقط، وأما في الأرض فالملك للكفرة وللظلمة وللمعتدين، فالله هو الذي له ملك السماوات والأرض، فهو يملك الأمور كلها، ويملك أن يجعل أهل الإيمان ظاهرين في لحظة واحدة كما قال تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر:٥٠]، ولكنه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء للمؤمنين؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان، وليذوق من بعدهم أيضاً حلاوة الإيمان بهذا الابتلاء.