[أهمية الاستقامة على أمر الله]
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:٤٤].
فالواجب عليك أن تستقيم الاستقامة المطلوبة (وقل آمنت بالله ثم استقم)، وهي الاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، ولا ترغ روغان الثعلب بل اثبت على الحق ولا تبتعد عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تمل ولا تداهن، بل استقم على العلم والعمل والثبات والصبر والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد أن تكون هناك استقامة وهي التي أمر الله بها عند الشدائد فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:١١٢]، وهذا الأمر هو الذي شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (شيبتني هود وأخواتها)، ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)).
إذاً: تدور مع الأوامر وتلتزمها، فنحن إنما أتينا من ترك الأوامر ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، نؤتى حين نتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن كان فينا من لا يعلم فلا بد من العلم ولا بد من ترك متابعة الذين لا يعلمون، ولا بد أن نتبع أهل العلم والتقوى والصلاح والاستقامة من أجل أن ننفي عن أنفسنا الجهل بتعلم العلم الواجب علينا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)).
تأمل فضل الله سبحانه وتعالى، فقد جاء الأمر من الله بأن ينطلق بنو إسرائيل مع موسى ليلاً وهم متبعون {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:٥٢]، إذا: فقد علم موسى بوجود المطاردة، فأنت حين تخرج وتعلم أن في طريقك من سيطاردك فاعلم أنها طريق غير آمنة ((إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ))، وسبحان الله! فقد كان في قدر الله أن فرعون سيتبعهم، ولم يخرج من أول مرة بل أخره الله فأخرج جنوده فقال الله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:٥٣ - ٥٦].
قال عز وجل: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ))، أليس هم الذين خرجوا بإرادتهم؟ ولكن الله يذكر فعله فيهم لنستحضر أن الأوامر من فوق، وأن الأمر من عنده، وقد كانوا جالسين على أسرتهم في الجنات والعيون فأخرجهم الله، قال عز وجل: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٥٧ - ٦٣] أي: أن كل ناحية منه كالجبل العظيم على عدد أسباط بني إسرائيل؛ فانفلق البحر بضربة واحدة إلى اثنتي عشر طريقاً، وجاءت الريح فيبست الطريق {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:٧٧].
قال الله عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ولا شك أن بني إسرائيل كانوا يجرون جرياً لكي ينجوا، ولكن الله ذكر ذلك على سبيل فعله هو عز وجل فقال: ((وَجَاوَزْنَا))، منة منه وفضلاً سبحانه وتعالى على بني إسرائيل وهم ما جاوزوه بأنفسهم، ولكن الله هو الذي جاوز بهم ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، هنا نسب الفعل إلى فرعون، فقد أتبعهم فرعون ليبين فعله الذي يستحق عليه الهلاك، وذكر صفة هذا الفعل بما فيه من بغي وعدوان: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) وقال في الآية الأخرى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:٧٨]، (بجنوده) تدل على تبعية الجنود له مثل قطيع الغنم، فهو يمشي بهم وهم يتحركون وراءه بلا عقل ومع ذلك هم مسئولون؛ لأن لهم عقولاً، فهم الذين عطلوها، ولذا قال هنا: ((وَجُنُودُهُ))؛ لأن المشاركة تقتضي الجريمة؛ ولأنهم أيضاً بغاة ومعتدون (بغياً وعدواً) إذاً: كل جندي مطيع في الباطل فهو باغٍ ومعتد ومستحق العقاب، ولذلك دائماً يذكر فرعون وهامان وجنودهما وأنهم كانوا {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٦].
إذاً: لا طاعة في معصية الله، والطاعة في الكفر كفر والعياذ بالله وقال: ((بِجُنُودِهِ))؛ ليبين التبعية المذمومة، وقال في الآية الأخرى: ((وَجُنُودُهُ))؛ ليبن مسئوليتهم، وقال: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ))؛ ليبين الفعل منهم، فقد اكتسبوا الأفعال، وفي سورة الشعراء قال: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:٦٤]، فهو هنا يبين القضاء والقدر أي: أن ربنا يقربهم وهو الذي يدفع فرعون دفعاً، وإن كان يمشي بإرادته.
فالعبد يفعل وعليه المسئولية؛ لأن ربنا أعطاه قدرة وإرادة وعقلاً يفكر به، وبلغه الشرع وبناءً على ذلك هو يحاسب، والله هو الذي جعله يفعل، فلا يقول هذا قدر الله علينا، فأنت الذي اتبعته، وأنت الذي كنت باغياً معتدياً.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:٦٤] أي: قربنا، وفعل ربنا ذلك من أجل أن نستحضر أن الأمور بيده، مثل قوله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً))، وقوله: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وقوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا))؛ لتستحضر أن الأمور من عنده، وأن شيئاً لا يخرج عن قضائه وقدره بالعدل لا بالظلم، فالله لا يظلم الناس شيئاً.
قال تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، ولما ذكر البغي والعدوان ناسب أن يكون الفعل منسوباً إليهم، قال: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ))، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه خرجوا من الناحية الأخرى ودخل فرعون بجنوده حتى توسط بهم البحر جميعاً وهو يريد أن يدرك موسى وقومه؛ فجاءت آية جديدة من آيات الله، فالله هو الذي فلق البحر له، ولكنه طمس على قلبه وبصيرته والعياذ بالله، وفرس فرعون يتحرك أيضاً، ولما توسط البحر انغلق البحر عليهم في سكون وبساطة شديدة، وفي لحظات انتهى كل شيء، وبدأ فرعون يشرب من الماء ليغرق ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)).
وانظر إلى الذل والهوان فلم يقل: لا إله إلا الله: بل هو تابع لبني إسرائيل باقٍ معهم، فقال: إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل: سأظل أمشي وراءهم، ما قال إلا الله مع أن الصواب هو: لا إله إلا الله، ولكن هذا من أجل أن يبين لنا مدى التبعية.
((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))؛ لأن سيدنا موسى كان يدعو لدين الإسلام ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، فهو لا يدعو إلى اليهودية أو النصرانية المحرفة، بل الله سبحانه وتعالى جعلهم يدعون إلى الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام كما قال الحواريون لما أرادوا أن يخبروا عيسى أنهم على دينه {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٥٢]، أما نحن فإننا أتباع موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أتباع نبي من الأنبياء حقاً إلا في أهل الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى.
قال سيدنا جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر -أي: من طين البحر- في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة)، فالنفصل لا إله إلا الله خاف سيدنا جبريل من أن يرحم الله فرعون وقت قبض روحه وينجيه؛ لأنه سيدنا جبريل يكره من يكرهه الله، فهو يريد أن يهلك؛ ليكون آية، فهو يدس الطين في فِيه من أجل ألا يتكلم مرة ثانية وألا يقول لا إله إلا الله، بل من أجل أن يسكت؛ فمن توفيق الله للعبد أن يقول: لا إله إلا الله منة من الله عليه، فهي أعظم كلمة في الوجود، (فأفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففرعون رأى آيات كثيرة جداً من أجل أن يقولها فقط مرة واحدة ولكنه ما قالها، فربنا لم يمنَّ عليه بها، وقد منَّ الله عليك بأن تقولها ربما دبر الصلاة عشر مرات، وأن تقولها وأنت جالس على أريكتك، وتقول يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وانظروا إلى ابن جدعان فقد كان يطعم ويطعم ويفعل فتسأل عائشة مشفقة عليه؛ لأنه كان يصل الرحم ويقري الضيف، ويفك الأسير، هل نفعه ذلك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا.
إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
فنعمة من الله أن تقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وأن تكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، فهذا سيدنا جبريل لا يريد أن يتكلم فرعون بهذه الكلمة، لكن ذل فرعون فظيع، فربنا عز وجل لا يقبل مثل هذا الإيمان.
قال عز وجل: ((آلآنَ)) [يونس:٩١]، أي: الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، وسنة الله اقتضت ألا يقبل الإيمان ممن نزل به العذاب وحضره الموت وحصلت الغرغرة، ولكن يمكن أن يقبل منه قبل ذلك بلحظات، أما إذا غرغر الإنسان أو نزل العذاب فلن تقبل توبته.
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ