قال تعالى:((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، كونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن؛ إذ إن عليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكان من الأرض، فهذه وظيفته، فإن تيسر ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، المهم تحقيق العبودية، وقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهليهم، وقراباتهم، ووضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه -كما عرف مما ذكره المفسرون- فقد كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من هو كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه وطاعته عز وجل على كل شيء، كما قال عز وجل:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٢٤]، فقضية العبودية هي أعظم قضية يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيقها في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل من تلك الأرض إلى أرض الله الواسعة، والمؤمن عبد الله يعبد الله عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة.
ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:٩٩]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحب مكة أو أشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن، مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك مع بني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، ولكن أبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم، انتقلوا من أرض، هجرتهم من المدينة إلى مختلف الأمصار؛ ليجاهدوا في سبيل الله وليبلغوا دين الله.
فالمقصود تحقيق العبودية على أي صورة، وعلى جميع أنواعها، فإيواء الفتية إلى الكهف؛ لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان، طالما وجد العجز عن إقامة الدين وأمكن الهجرة فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر والضلال والعصيان وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرض عليه ذلك.