[اعتزال الفتية عبادة قومهم وإعلان التوحيد لله عز وجل]
قال تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الكهف:١٤] يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بعبادة الأصنام والطواغيت، ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم -أي: يخرج إلى البراز، وهي الأرض الواسعة- فكان أول من جلس منهم وحده شخص جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان عز وجل، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري معلقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم -يعني: قولهم من جنس واحد هو الذي أوجب أن ينضم بعضهم لبعض- والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه؛ فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم؛ فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله:((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا))، و (لن) لنفي التأبيد أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأننا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم:((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا))، أي: باطلاً وكذباً وبهتاناً ((هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ))، أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله:((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ))، أي: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم ((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ))، أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ((وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) الذي أنتم فيه ((مِرفَقًا))، أي: أمراً ترتفقون به.
فعند ذلك خرجوا فراراً إلى الكهف فأووا إليه؛ ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا؛ فقال:(يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى:{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:٤٠].
فقصة غار ثور أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه؛ فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم الباب عليهم ليهلكوا مكانهم، ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر والله أعلم، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرةً وعشياً، كما قال تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}[الكهف:١٧].
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ))، أي: يتقلص الفيء: وهو الظل يمنة، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ((تزاور)) أي: تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال:((وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ))، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة المغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم ذات الشمال تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من أي الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: وهو عند نينوي وقيل: ببلاد الروم وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه فقال:((وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ))، قال مالك عن زيد بن أسلم: تزاور: تميل عن كهفهم ((ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)) أي: في متسع منه داخلاً بحيث لا تصيبهم إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم، ولهذا قال تعالى:((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، ثم قال:((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ))، أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.