للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نتيجة قتل الملك للغلام]

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا بالله برب الغلام).

في غباء منقطع النظير، وحقد أعمى وعناد على الباطل، ربما لا يشبهه إلا غباء فرعون وحقده وعناده عندما اقتحم البحر الذي انفلق لموسى صلى الله عليه وسلم أمامه، فعل الملك ما أمره به الغلام، وحدث ما أراد الغلام، ظهر الحق عالياً بقوة الحجة والبيان، وبكرامة الله لأوليائه الصالحين، ومالت القلوب إلى فطرتها الأولى لتوحيد الله والكفر بالطاغوت، فآمن الناس بالله رب الغلام.

فذهب الغلام شهيداً، وليس بأول الشهداء ولا بآخرهم، فهو حي عند الله عز وجل، وحييت دعوته دعوة الحق والإيمان في قلوب الناس، وتحول الشعب الجاهل المنقاد بالباطل الذي قبله لمدة سنين طويلة إلى الإيمان بالله وحده، وما أعظم شرف الغلام ومكانته حين يعرف الناس ربهم وإلههم به، فيقولون: آمنا بالله رب الغلام، هو رب العالمين سبحانه، وذكروا هنا: رب الغلام؛ شرفاً لهذا الغلام، وكفى به شرفاً، كما قال سبحانه وتعالى عن قول السحرة: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢]، تشريفاً لموسى وهارون، فشرف عظيم لهذا الغلام أن يقال: آمنا بالله رب الغلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فأمة كاملة آمنت بسبب غلام، فيا لفرحة أستاذه ومربيه ذلك الراهب العابد الموحد الذي لقي الله قبله، ولم ير في حياته على الأرض ثمرة دعوته، فقد مات الراهب قبل أن يؤمن أحد إلا الغلام وجليس الملك وآحاد، ولم تكن البذرة التي زرعها قد أثمرت بعد، ومات قبل أن يرى الثمرة، يا لفرحته عند لقاء الله، وقد كان سبباً في إيمان أمة، فلا تيئسوا أيها المربون أبناءكم في الدعوة، فقادة الدعوة في المستقبل القريب ودعاتها وعلماؤها ومجاهدوها هم الآن أطفال وغلمان بين أيديكم، فعسى الله أن يجعل الفرج على يد أحد منهم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد والله آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت - حفرت -، وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها - يعني: ترددت أن تقع في النار وهمت أن ترجع عن دينها- فقال لها الغلام - ابنها الصبي الصغير -: يا أمه! اصبري فإنك على الحق).

أي: رغم كل الآيات التي رآها الجميع لا يزال الطغيان يجد له أعواناً ينفذون له أوامره الكفرية، ولا يزال هناك من يرى الحق أوضح من شمس النهار، ثم يتجسس للملك ويخبره بأخبار الناس، وهو يعلم أنه إنما يحذر من الإيمان، وأن المشكلة من بدايتها كانت محاولة الصد عن سبيل الله: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك.

إذاً: فماذا كان يحذر منذ أن علم قصة جليس الملك؟ كان يحذر أن يؤمن الناس، وأن يعلموا ذلك، فعلموا ذلك ورأوا الآيات، لكن سبحان الله الذي طمس على القلوب إلى هذه الدرجة، ليس فقط قلب الملك، بل قلوب الحاشية والعوام الذين يرفعون التقارير إلى الملك عن انتشار الدين الحق في المملكة وفيها: لا بد من التصرف، أي: ليس إلا مزيداً من البطش والإجرام، وهو يتفنن في طرق التعذيب والقتل، وله فيه خبرة سابقة وتجربة ماضية، فيأمر بالأخاديد تحفر في أفواه الطرق، ويأمر بقتل المؤمنين لإيمانهم حرقاً بالنار طالما أبوا الردة والرجوع عن الإسلام، فوالله إن المرء ليتعجب من وجود الأعوان والجنود الذين ينفذون مثل هذه الأوامر، وهذا مثل فرعون حين وجد من يقتل له السحرة، ومن يقتحم خلفه البحر، وكما نجد في كل زمان مع ظهور الباطل وبطلانه للناس كافة، وظهور كذبه وظلمه ونفاقه وكفره، وظهور غشه للناس، وإتعابه لهم، وأنه إنما يريد الصد عن سبيل الله ويحذر من الإيمان والتوحيد أن ينتشر في الناس، ومع ذلك نجد له الجنود والأشياع؛ لنعلم أنه من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأنه من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون.

ولنتأمل كيف قبل الناس الوقوع في النار وصبروا هم وأطفالهم ونساؤهم؛ لأنه قد تمكن الإيمان من قلوبهم، فأصبح إلقاؤهم في النار أحب إليهم من أن يرجعوا إلى الكفر، إنها حلاوة الإيمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي الحديث دليل على أن المسلم لو خير بين أن يقتل ويقتل صبيانه معه على التوحيد، وبين أن يؤخذوا منه فينشئوا على الكفر، لكان الخيار الذي يلزمه هو أن يقتل هو وصبيانه؛ لأن الدين مقدم على النفس كما بينا، ولا يرضى بكفر أولاده الصغار ولو كانوا دون البلوغ ودون التكليف.

وفي قول الصبي الصغير لأمه: (يا أمه! اصبري؛ فإنك على الحق) بيان الفطرة السليمة التي فطر الله العباد عليها، ومنها: الصبر على الحق إلى لقاء الله سبحانه، والله أعلم هل كان هذا الصبي في مهده؟ فهذا الذي يظهر كما في بعض الروايات: أنه كان صبياً في المهد حين تكلم، وهذا هو الصحيح الظاهر.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:٤]، وذكر سياقاً آخر مختصراً وفيه: وخد أخدوداً من نار، وقال لهم الجبار وأوقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه، فقالوا: هذه أحب إلينا، وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقال لهم آباؤهم: لا نار من بعد اليوم، ووقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:٤].

ويشهد لهذا المعنى ما ذكرنا من الحديث: (إنه لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا قرصة كقرصة النملة).

نسأل الله أن يحيينا على الدين، وأن يميتنا عليه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج: ص:  >  >>