فهم ابن عباس رضي الله عنه من كتاب الله عز وجل ذلك بدقيق الفهم وعميق العلم، فعلم كيف أشار القرآن إلى تضعيف القولين، وأشار إلى تصويب وتصحيح الثالث بالسكوت عنه؛ فإن الله ما كان ليسكت على منكر ذكر في كتابه سبحانه وتعالى، وقد لا يكون النص صريحاً واضحاً يفهمه كل أحد، ولكن يشير إليه القرآن، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي قد فهم إشارة القرآن فيبين ذلك بكلامه، كما ذكرنا في قوله تبارك وتعالى:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:٢١] فكان فيها إشارة إلى أن الذين قالوا ذلك ليسوا من أهل العلم ولا الصلاح ولا الإيمان، وإنما من أهل القوة والغلبة والسلطان، ومعلوم أن المتقدمين من كان فيهم من أهل القوة والسلطان كان قليل العلم أو منعدمه، أو عنده أنواع من البدع، وبين النبي صلى الله عليه وسلم إشارة واضحة عند من تأملها بنهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وأن اليهود والنصارى لعنوا بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والمقصود: أن القرآن لا يسكت على الباطل الذي يحكيه بل يرده ويبطله، ولكن كم من الناس من يفهم ذلك؟ قليل، كم من الناس يستطيع الاستنباط من كتاب الله عز وجل بهذه الطريقة التي كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون ويستنبطون بها؟ قلة نادرة، وكلما اقترب الإنسان من كتاب الله وكان ألصق بطريقة الصحابة رضي الله عنهم؛ ازداد فهماً ووضحت له الأمور، وقلما أعوزته النصوص، وقلما يضطر إلى القياس؛ لأن النصوص تكون عنده واضحة وبينة يأخذ منها الأحكام بطريقة سهلة ميسرة، ويتعجب الناس كيف وصل إلى هذا! مع أنه واضح وجلي وبين، لكنه فهم يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء، كما قال علي رضي الله عنه عندما سألوه: هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، ثم أخرج كتاباً فيه قدر الديات، وأسنان الإبل، وأنواع من الجراح، وألا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ثم قال: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتاب الله.
وهذا من أعظم أبواب العلم أن يفقه الإنسان القرآن، فيعرف الإشارات والدلائل القرآنية التي يستدل بها، ولكن هذا قلة في الناس، ولذا قال:((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) وطوبى لمن تعلم هذا من حبر هذه الأمة وعالمها عبد الله بن عباس فيكون من القليل، وإلا فكم من الناس يقرءون سورة الكهف ولا يدرون ما الراجح من هذه الأقوال، وما هو عدد أصحاب الكهف، وإذا قرأ الإنسان ذلك وفهمه وعلم كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فهم الراجح من المرجوح في هذا.
والترجيح يكون بالدليل، ذلك أن الله هو الأعلم:((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) فالدليل كان من الوحي؛ لأنه لا سبيل إلى معرفتهم بالعقل، فكيف ندرك عدد أصحاب الكهف بطريقة من طرق الحساب، أو بوسيلة من وسائل النظر والاستدلال؟ لا يمكن معرفة ذلك إلا من خلال دليل سمعي، أو دليل من الوحي ينزل على الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فكان هذا؛ لأن الله هو الأعلم ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) دليل على أن ذلك لا يتلقى إلا من جهة الوحي من عند الله الذي هو أعلم بالعدة.
كذلك ينبغي أن يقول الإنسان بعد ذكر مسائل الخلاف: الله أعلم.