[أسباب الإعراض عن الحق]
قال الله عز وجل: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:٧٨].
فهم يعرضون عن الحق بسبب أمور، منها: مخالفة هذا الأمر بالعادات والتقاليد كما قال الله: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، فهذه تهمة فظيعة عند القوم: فقد خالف المعتاد والمجتمع الذي نشأنا فيه، وخالف الطريقة المثلى -مع أنهم والله يعيشون عيشة نكد وشقاء- وانظر كيف سخرت الآلاف من البشر من أجل بناء أهرامات هائلة.
هذا كله لتكون قبراً لملك من الملوك مع أن الناس يعدون ذلك من مظاهر المدنية.
والحضارة! أما الذين بنوه فماذا كسبوا من وراء ذلك؟ فكانوا يرون أن طريقتهم المثلى والعيش الذي هم فيه لا يقبل التغيير ولا التبديل ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، والتقليد هو من جعل ملايين الناس هكذا، وهو ليس حجة بل هو شبهة، ومع ذلك لا يقبل الناس التنازل عنه، بل إن أكثرهم يكفرون بسبب التقليد.
قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:١٠٩]، مودة بينهم في الحياة الدنيا كما قال الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:٢٥]، فبعض الناس من أجل أن يرضي أباه أو أمه أو أقاربه يكفر بالله ويعبد صنماً وثناً من غير الله سبحانه وتعالى بأنواع العبادات، مع أن العقائد باطلة قطعاً لا يقبلها عقل.
وأنا أتعجب من وجود أناس في زماننا هذا ما زالوا يعبدون البقر! والفئران! والحجارة! لماذا؟! كل ذلك من أجل التقليد والعياذ بالله، وتعظيم الآباء والأسلاف؛ فحجة أبي جهل على أبي طالب لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، ويقول كلمة لا إله إلا الله؛ ليحاج له بها عند الله، فيقول له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب، فلم يتنازل عن دين الآباء.
فمن الخطر الكبير أن نكون مقلدين، أو لا نغير ما نشأنا عليه، بل لا بد أن تعرض الأمر الذي نشأت عليه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان حقاً قبلته، وإلا فلا بد أن ترفضه وتغيره إلى الحق؛ فدعوات الأنبياء ما قامت إلا على مخالفة ما كان عليه آباء المشركين وأجدادهم، وهذه التهمة هي التي واجهوا بها موسى، وموسى لم ننفيها، ولا ينبغي لنا أن ننفها، ولا أن نقول: نحن لن نغير الواقع والمجتمع، ولكننا سوف ندخل عليه بعض التغييرات لنصبغه بصبغة إسلامية، لا.
بل سوف نغيره بالتأكيد من جذوره حتى يكون إسلامياً محضاً من أساسه إلى ارتفاعه، فلا نقبل الموروث أياً كان، بل نقبل ما وافق الحق، ونرفض ما خالف الحق، والحق هو قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الصحابة رضي الله عنهم، فهذا هو الحق الذي به نزن الأمور.
فموسى أتى ليلفتهم وليبعدهم عما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وعبادة فرعون وطاعته بالكفر والعياذ بالله.
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) هذه تهمة أخرى باطلة، وهي: أن فرعون قد اتهم موسى بأنه يريد الكبرياء والحقيقة أن فرعون وملأه هم المستكبرون، وهم الذين يعملون للدنيا، ويتكبرون في الأرض بغير الحق، ولكنهم يظنون أن كل الناس كذلك كما أن جامع المال يظن أن كل الناس تحب المال كحبه، وصاحب الملك والرئاسة يظن أن كل الناس تريدها، وأن غرض الناس كلهم كغرضه؛ فمن أجل ذلك يتمسك بها بشدة، وهذا باطل فليس أهل الإيمان ممن يريدون الرئاسة، أو الكبرياء في الأرض، ولكن أهل الإيمان يعملون لله عز وجل ولا يريدون أن يكونوا مشهورين على رءوس الناس، ولا أن يكون الناس تحت أوامرهم، وإنما يريدون أن يعبد الله عز وجل في الأرض، وهم أخفياء أتقياء، إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، وحاجة أحدهم في صدره لا يريد لها تنفيذاً، ويصبر وهي في نفسه، وربما مات قبل أن تقضى؛ ففقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة؛ من أجل أن الدنيا لم تفتح لهم، ولم يقدموا في المجالس، ولو أقسم أحدهم على الله عز وجل لأبره.
فهذه التهمة الباطلة قديماً وحديثاً يُتَّهم بها الدعاة إلى الله، وأنهم يريدون الكبرياء والرئاسة والشهرة، وهذه التهمة لا تؤثر شيئاً في حقيقة الدعوة طالما كان الإخلاص والصدق مع الله عز وجل رائدها، وهو حقيقة أهل الإيمان بشرط أن يكونوا بالفعل متبعين للرسل، صادقين مع الله سبحانه وتعالى فإذا أخلصوا لله نصرهم ودفع عنهم هذا الاتهام الباطل.