وهناك نوع ثانٍ نلحظه في قصة قوم لوط، وهو أن الله أهلك الرجال والنساء معاً وكان من ضمنهم عجوز في الغابرين، وهي امرأة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل أنهم يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من أزواجهم، كما قال عز وجل على لسان لوط:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}[الشعراء:١٦٥ - ١٦٦]، فلم تكن هذه المرأة ولا غيرها من نساء قوم لوط يفعلن الفاحشة؛ لأن الرجال تركوا الشابات، فكيف بالعجائز؟ فلا شك أن ذلك أولى بالترك، ولكن لماذا عذبت النساء؟ ولماذا أهلكت امرأة لوط؟ إن سبب هلاكهن هو إتيانهن بنوع آخر من الشرك، وهو شرك الرضا والمحبة والموالاة على الكفر والباطل، وعلى تكذيب الرسول وعلى معاداة الحق، وهذا النوع من أخطر أنواع الشرك والكفر الذي يقع في الأمم، ذلك أن كثيراً من الناس لا يباشرون الباطل بأنفسهم، ولكنهم يرضون بفعله، ويقرون ويصححون فعله، ويرون أن الباطل من كفر وشرك أو نفاق أو معاصٍ وذنوب حق لصاحبه، ويرضون بالمنكر فيصيرون كمن ارتكبوه.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى لذلك أمثلة كثيرة، فقوم ثمود نسب الله عز وجل إليهم قتل الناقة جمعياً، فقال:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس:١٤]، وإنما الذي تولى العقر واحد، وهو أشقاها، كما قال تعالى:{إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس:١٢ - ١٤]، فنسب العقر إليهم جميعاً؛ لأنهم كانوا مقرين ومساعدين ومعاونين ومؤيدين للذي عقر، كما قال عز وجل:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:٢٩ - ٣١]، فعذب الجميع لأنهم رضوا، كما أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، ومعاونة لهم على منكرهم، وهي التي أخبرت قومها بأضياف زوجها.
ولوط عليه السلام لم يكن من هؤلاء القوم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهو الذي آمن من قوم إبراهيم، كما قال عز وجل:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}[العنكبوت:٢٦]، وهاجر لوط مع إبراهيم وأرسله الله إلى قرى سدوم، وهي قرى في فلسطين قرب البحر الميت، وتزوج هذه المرأة من أهلها، وأرسله الله إليهم لينهاهم عن تلك الفاحشة الفظيعة، ولكنها ظلت موالية لقومها محبة لهم على كفرهم وشركهم، راضية بفعلهم، معاونة لهم على الإثم والعدوان، والكفر والطغيان، فصارت مثلهم في المصير والجزاء؛ لأن كل من رضي بالباطل فهو شريك فيه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من شهد المعصية فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن فعلها.
فعدل من الله عز وجل أن يكون حب الكافرين على كفرهم، والرضا به سبباً في الضلال والكفر والعياذ بالله.
وكثير من الناس يرى في نفسه الحق وفي نفس الوقت يصحح مذهب أهل الباطل والشرك والكفر والضلال والنفاق، فيصير منهم، ولو لم يشرك مثل شركهم، أو يفعل مثل فعلهم.
ومعنى هذا: أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، فقطاع الطريق البعض منهم يباشر قطع الطريق، والبعض يحرس، وينظر لهم من يأتي، وفي الحقيقة لن يتم عمل الذي يباشر أخذ المال أو القتل إلا بمعاونة الردء، فهذه المرأة كانت معاونة لقومها، فخرجت إليهم، وأشارت: أن احضروا سريعاً فعند لوط رجال لم يُر مثلهم في الجمال.
فهذا هو سبب هلاك النساء اللاتي رضين بالفاحشة، ورضين بالمنكر والكفر، وكن ضمن المستهزئين بالشرع، وكن مستهزئات بلوط عليه السلام، فكانت خائنة كما وصفها الله بقوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[التحريم:١٠]، وكانت خيانتها خيانة عقيدة ولم تكن خيانة فراش؛ لأنها لم تكن تفعل الفاحشة، ولم يفعل قوم لوط الفاحشة مع عجوز، أو امرأة، فقد كانوا لا يأتون النساء وإنما كانوا يأتون الذكران والعياذ بالله.