للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم]

فلو تأمل إبليس لعلم أن آدم خير منه، فآدم خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:٣١ - ٣٣].

فإبليس كان يكتم في نفسه أنه يرى نفسه أفضل من آدم، ويكتم في نفسه الكبر والعجب والعياذ بالله! فكان عند إبليس القياس الفاسد فرد شرع الله بأن أصل خلقته من النار، وأصل خلقة آدم من الطين، والنار أفضل من الطين، فهذا القياس فاسد الاعتبار لا يجوز أن يعتمد عليه لأنه في مقابلة نص واضح، والشرع أتى بالقياس الصحيح ولم يأت بالقياس الفاسد، وأكثر انحراف الناس عن الشرع هو بسبب القياس الفاسد، فيعمل الإنسان عقله مع وجود النص، فيقول لك: لم أقتنع بهذا الأمر! فهذا أمر خطير، لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يقول لأمر من أوامر الله: أنا غير مقتنع به، لماذا غير مقتنع به؟! أمر الله عز وجل العليم الحكيم هل يعرض على العقول؟! فإبليس هو الذي فعل ذلك، وهو أمر خطير جداً نسمعه فمثلاً: ترى فتاة متبرجة يقول أبوها: إني أتركها حتى تقتنع، فتقول لك: أنا لست مقتنعة بالحجاب! وهذا أمر ربنا عز وجل في القرآن حيث يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١] وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣] فالذي لا يقتنع بشرع الله وأمره مع علمه بأن هذا أمر الله فهو إبليسي المذهب يسير على طريقة إبليس، فلا بد أن تلتزم بشرع الله، ولو نظر إبليس في الحقيقة لعلم أن الله نفخ في آدم من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، والعلم يقتضي التكريم، بخلاف النظر إلى أصل الخلقة، فمن الذي قال: إن الطين أقل من النار أو النار أفضل من الطين؟! لا يوجد دليل على ذلك، لكن عندما يتأمل الإنسان كل الشبهات الباطلة يجدها في النهاية لا أصل لها ولا دليل عليها، فإبليس بنى على أن النار أفضل من الطين، وبالتالي فالذي خلق من النار لا بد أن يكون أفضل من الذي خلق من الطين؛ وكذا فإن الأمر بالسجود للذي خلق من الطين أمر غير صحيح فكان رد فعله أن امتنع من السجود.

فهذه المقدمات مبناها أصلاً على قاعدة باطلة، فلا يوجد دليل على أن النار أفضل من الطين، لا دليل على ذلك، بل إن النار من صفاتها الطيش والخفة، والطين من صفاته الهدوء والسكينة والرزانة؛ ولذلك يقولون: خان إبليس أصله، فسبب طيش إبليس خلقته، وهذا الكلام قاله بعض السلف لكن ليس فيه دليل؛ لأن إبليس لما كان مطيعاً كان مرتفع المنزلة، وبعض الذين يخلقون من الطين ليس فيهم رزانة ولا هدوء ولا سكينة بل يكونون في أسفل سافلين، والعبرة بالأعمال ليس بأصل الخلقة؛ وبالتالي نقول: لو أن إنساناً نسبه شريف لكن أعماله قبيحة، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) إن أصل خلقتك أصل شريف، ولكنك لو كنت من نسل الأنبياء لخالفت سبيلهم فلست منهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي - بعض أقاربه الذين لم يؤمنوا- ألا إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

والمقصود: أن المقدمات الفاسدة والقياس الفاسد هما اللذان يؤديان إلى تحريف وتبديل وتضييع الشرع، ثم إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله، فالحذر الحذر من استعمال الرأي في مقابلة النص، كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته) وانظر إلى سهل بن حنيف عندما كان في صلح الحديبية والرسول صلى الله عليه وسلم يمضي الصلح على الشروط التي اشترطها الكفار -وهي شروط ظالمة، فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام للمصلحة- فكان بعض الصحابة يتمنون أن يردوا ذلك خصوصاً أمر أبي جندل أحد المستضعفين من المسلمين وهو ابن سهيل بن عمرو، فرده إلى أبيه يفتنه عن دينه، فما استوعب أكثر الصحابة ذلك، ولكن انظر إلى الفتح الذي حصل بالصلح، لقد كان فتحاً عظيماً مبيناً كما وصفه الله عز وجل حيث قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١] فالمؤمن لا بد أن يمتثل لشرع الله ولا يعترض برأيه ولا بعقله على أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى لا يكون مثل إبليس الذي قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) والعياذ بالله!

<<  <  ج: ص:  >  >>