إن التداوي عموماً الأصل فيه الاستحباب، وقد يكون واجباً في بعض الأحيان وذلك إذا غلب على الظن الهلاك، أو فساد عضو من الأعضاء، أو العجز عن أداء الواجبات، مع غلبة الظن بالشفاء، والمرض متفاوت بلا شك، فهناك أنواع من الأمراض وأنواع من الأدوية.
فنقول: إن هناك بعض الأحوال يكون التداوي فيها واجباً؛ كمن يعلم -مثلاً- أنه إذا لم يوقف النزيف بأنواع العلاجات استمر حتى يموت، فهذا لا يجوز له ترك التداوي، فما كان فيه إنقاذ للحياة بسرعة فلا يجوز أن يترك، والأغلب في أنواع التداوي عدم وصولها إلى هذا الحد، وهو غلبة الظن بحصول الهلاك عند تركه، وغلبة الظن بحصول السلامة عند استعماله، فأغلب الأدوية إنما هي أقل من ذلك، فلذلك نقول: هي مستحبة وليست واجبة؛ لأنه ليس هناك يقين على أن بقاء الحياة يستمر بغير ذلك.
وأما التداوي بطلب الدعاء فالأولى تركه، كما تدل عليه قصة الأعمى، وقصة المرأة السوداء، وأما من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) في وصف السبعين ألفاً على استحباب ترك التداوي مطلقاً، فهو استعمل دليلاً أخص من الدعوى، فالدليل هنا خاص بالاسترقاء والكي وليس في كل أنواع التداوي، فطلب الرقية غير طلب الدعاء من الغير، وهذا خلاف الأولى كما ذكرنا في الأمور الدنيوية.
فالأرجح أن التداوي مطلقاً هو الأفضل، وكذا الكي، قال صلى الله عليه وسلم:(وما أحب أن أكتوي) وقال: (وأنهى أمتي عن الكي) أي: نهي تنزيه، واستعمله عليه الصلاة والسلام مع بعض أصحابه، وقد يكون هناك تداوٍ بمحرم، كشرب خمر أو أكل لحم خنزير أو غير ذلك، فهذا محرم بلا ريب، إلا عند الضرورة المهلكة، أي: التي يجد فيها الهلاك، كإساغة الإنسان اللقمة التي وقفت في حلقه فمنعت النفس، وليس أمامه إلا الخمر، فهذه ضرورة؛ لأن الإنسان سيموت إذا لم يتنفس، فإساغة هذه اللقمة سوف يمررها بعيداً عن مجرى النفَس، فمثل هذا الذي ضربه العلماء مثلاً لهذا الباب يجوز.
وهذا الذي فعله الناس من طلب الدعاء من الغلام يدل على أنهم كانوا أصلاً لم يحققوا كمال التوحيد، بل أكثرهم كان كافراً قبل أن يؤمن على يد هذا الغلام.
ونذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وهو: أن طلب الدعاء من الغير مطلقاً خلاف الأولى ليس بصواب، بل لا بد من التفصيل الذي ذكرنا، فإن عكاشة بن محصن رضي الله عنه وهو واحد من السبعين ألفاً الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال:(ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: اللهم اجعله منهم) ولم يقل له: كيف تسأل هذا؟ إذا كنت تريد أن تكون من السبعين ألفاً فلا تسأل، فالظاهر أنه يفرق بين الأمر الديني والدنيوي، فالأمر الديني يجوز أن تسأل، بل يستحب أن تسأل، ولا يكره أن تسأل غيرك الدعاء، وأما الأمر الدنيوي كنجاح في الامتحان وكشفاء من مرض ونحو ذلك، فسل الله بنفسك، ولا تطلب من غيرك -ولو كان من الصالحين- أن يدعو لك.