[حرمة الغلو في الصالحين]
ومعلوم لكل ناظر فيما آل إليه أمر المساجد التي بنيت على القبور، فقد آل الأمر إلى غلو فظيع وإفراط مذموم، أدى إلى أن يطاف بهذه القبور وأن يذبح وينذر لها، وأن توضع عليها صناديق النذور، وما زالت صناديق النذور إلى يومنا هذا موجودة في أضرحة من يسميهم الناس بالأولياء، والله أعلم بأوليائه سبحانه وتعالى، إذ إن الولاية إيمان وتقوى، ومن هنا كان لا يجوز أن نجزم بولاية من لم ينص الكتاب والسنة أو أجمعت الأمة على ولايتهم، والله أعلى وأعلم.
والغلو في العبادات منهي عنه؛ لأنه يوقع في الشرك؛ ولأن الغلو فيمن كان قبلنا أدى بهم إلى أن يعبدوا الصالحين والأنبياء، كما وقع من قوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ فإنهم عبدوهم من دون الله.
قال غير واحد من السلف: عكفوا على قبورهم وصوروا تلك التماثيل، فجمعوا بين فتنة القبور وفتنة التماثيل، فوقع ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك.
ومن هنا نعلم أن التحذير من هذا الأمر مما لا يختلف فيه؛ لأن أزمنة المتأخرين اشتدت فيها الفتن وكثر الجهل فهم أولى بالتحذير، لكن البعض يتكلم بكلام وهو لا يدري ما يقول، فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، محاولاً الجمع بين النصوص، نقول: وأي اختلاف حدث بين النصوص حتى يجمع بينها؟! فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، فلما استقر أمر التوحيد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، واحتج بأن الصحابة جعلوا مسجده صلى الله عليه وسلم على قبره.
فنقول: إن الصحابة لم يبنوا على القبر مسجداً، بل دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، وإنما تم توسيع المسجد من حول القبر في عهد بني أمية، عندما كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة، والحقيقة أن عامة العلماء -وإن وردت بعض الآثار في أن بعض التابعين أنكر التوسعة حول المسجد- يرون أن توسعة المسجد مما لا بأس به للحاجة، ويقولون: إنه طالما أن الناس لم يمكنوا من الدخول للصلاة في الحجرة، فإنه لم يتخذ القبر مسجداً.
والمسجد أصلاً لم يبن على القبر، بل بناه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبالتالي فلا حاجة إلى تغيير الواقع الحالي.
ومن العلماء من يقول: ينبغي لمن يسر الله له عمارة المسجد النبوي عمارة جديدة أن يخرج القبر من المسجد، وهذا من باب سد الذريعة، وليس معنى ذلك أن المسجد الآن مبني على قبر، أو أن القبر قد اتخذ الآن مسجداً، لا، ولا يقول بذلك عالم، بل كل العلماء متفقون على أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على حاله التي هو فيها الآن مشروعة، ولها الفضيلة المذكورة في الأحاديث، ولكن الخلاف في أيهما أولى من باب سد الذريعة.
إذاً: المسجد مبني أصلاً قبل القبر، والآن لم يتخذ القبر مسجداً؛ لأنه لا يتمكن أحد من الدخول إلى الحجرة ليصلي داخل الحجرة أمام القبر، وأما النية فلا يمكن لأحد أن يحاسب العباد على نياتهم، كما أن من عبد النبي صلى الله عليه وسلم وسأل منه قضاء الحاجات وكشف الكربات في نيته وقلبه فإنه لا يستطيع إظهار ذلك بحمد الله تبارك وتعالى، وإنما يكون في نيته وقلبه واعتقاده شرك يتعلق به ويضر نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
والوثن لا يكون وثناً إلا بإظهار العبادة حوله، وبحمد الله تبارك وتعالى لا يبدو حول القبر إلا الراكع والساجد والموحد لله سبحانه وتعالى.
فخلاصة الكلام أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه في شرع من قبلنا وفي شرعنا، وعليه تغليظ شديد في شرعنا، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (أولئك شرار الخلق عند الله) فيدل على أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر.