قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى).
لقد كان الملك حريصاً أعظم الحرص على أن يرجع هذا الغلام عن الدين، وكان ذلك أكثر من حرصه على رجوع الراهب أو جليسه؛ لأن الغلام هو الذي أظهر الدعوة، وارتباط الدعوة به عند الناس أظهر وأوضح، والناس كلها تنظر إليه ماذا يصنع، ورجوعه عن دينه رجوع لكل أتباعه ومحبيه، فلم يقتله بالطريقة التي قَتل بها صاحبيه: الراهب والجليس، وإنما اتخذ طريقة فيها تطويل لزمن الاستعداد للقتل، لعل ذلك أن يكون دافعاً له في إعادة التفكير، فطوّل عليه مدة الإرهاب والتخويف بالصعود إلى الجبل لعله يرجع عن الدين، فكونهم يصعدون به الجبل حتى يبلغ الذروة فهذا بلا شك ضغط نفسي طويل الأمد، لكن هيهات، إن النفس المطمئنة بالإيمان لا تعبأ بمثل ذلك، والقلب العامر بذكر الله لا يخاف من أحد غير الله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:٢٨].
فالغلام مع ضعف قوته، وكثرة عدد عدوه وقوتهم قد فوض أمره إلى الله، ودعا بهذا الدعاء العظيم:(اللهم اكفنيهم بما شئت)، فكم جرب هذا الدعاء الصالحون فكفاهم الله أمر عدوهم، وتأمل طمأنينته وسكونه وحسن توكله على الله، وتضرعه إليه، وتفكر كيف لم يشغل نفسه بكيف ومتى وبأي وسيلة يكون الإنقاذ والنجاة! ولم يقل: يا رب! أهلكهم الآن! يا رب ابتليهم بصاعقة من عندك! يا رب ابتليهم بزلزال من تحت أرجلهم! يا رب ابتليهم بكذا وكذا من الأمراض! وشل أيديهم! ودمر إرادتهم وافعل كذا وكذا، لا، بل قال:(اللهم اكفنيهم بما شئت)، فهكذا فوض أمره إلى الله، وهكذا يكون حسن الظن بالله والثقة به، فيشمل ذلك صدق التوكل عليه، واللجوء إليه، فتأتي النتائج على خير مما يرجو المرء، وفوق ما يرجوه، كفاه الله سبحانه وتعالى.
ولنتدبر كيف جعل الله هلاك أصحاب الملك من جنس عملهم الذي أرادوا بالغلام المؤمن، فأرادوا إسقاطه من الجبل فأسقطهم الله، فهلكوا حين حدث زلزال في الجبل، ولحظة الزلزلة يظهر فيها العجز البشري تماماً، ويظهر أن ملوك الأرض ورؤساءها ليسوا بملوك لها ولا برؤساء، وإنما هم عبيد ضعفاء ترتعد فرائصهم خوفاً، ويجرون هلعاً، فعندما يقع الزلزال ترى كل الناس يجرون لا يستطيعون البقاء، وليس هناك فرق في هذا بين كبير ولا صغير، ولا بين ملك ولا مملوك، فالكل لا يحتمل لحظة أن يكون الملك فيها لله ظاهراً كيوم القيامة، وإن كان الملك لله في كل لحظة، لكن أكثر الخلق في غفلة عن ذلك.
فعندما رجف الجبل قدر الله هلاك أصحاب الملك ونجاة الغلام، فهل وجد الغلام هذه الفرصة لكي يهرب ويتخلص من جبروت الملك وطغيانه وقد كفاه ما دبره له؟ ليس هذا سلوك الداعية الحريص على هداية الخلق، فكم بقي في أرجاء المملكة من لم تبلغه دعوة الحق، أو لم ير دلائل صدق أصحابها؛ فمن أجل ذلك رجع الغلام يمشي إلى الملك، ولك أن تتصور كم كانت دهشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حياً يمشي إليه، وقد ذهب الأصحاب من الجنود الأشداء الأوفياء لملكهم، ذهبوا إلى غير رحمة، فيسأل الغلام متعجباً:(ما فعل أصحابك؟) فيقول الغلام الذي لا يعبأ كثيراً بالوسائل والكيفيات: كفانيهم الله تعالى.
فلم يقل له: إنهم أرادوا إسقاطي فسقطوا، فهذه أمور صغيرة لم يخبره بما جرى، ولم يجعل ما حدث من كرامة جديدة مادة للحديث حوله، بل جابه الملك بما يقض مضجعه ويغيظه، ألا وهو ذكر الله، فهذا الغلام الذي قال له:(إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) قال له مرة ثانية: (كفانيهم الله تعالى)، فقد جاءه بما يقض مضجعه، ويزلزل ادعاءه بالربوبية، بأن الله ربه وإلهه قد كفاه إياهم؛ ليكون ذلك مزيداً من الحجة على ذلك الملك المغرور المتكبر، الذي لو عقل وفكر وتدبر ما حدث لعلم أن الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيل له إليه، ولعلم حقيقة عجزه، فيجعله ذلك يتوب إلى ربه، لكن القلب إذا عمي وطبع عليه فما تغني النذر:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:٩٦ - ٩٧].
فسبحان الله! إن الملك بالفعل عاجز تماماً، فهو عاجز في العلم، وعاجز في القدرة؛ لأنه لا يدري ما فعل أصحابه، قال: ما فعل أصحابك؟ يعني: أين ذهبوا، فهو لا يدري، وهذا نفي للربوبية، ثم إنه عجز عن تنفيذ المخطط المراد من قتل الغلام بالإلقاء من فوق الجبل.