فهذه آيات كثيرة تكررت مرات عديدة في إثبات أن الحكم لله بجميع أنواعه، وهي: الحكم الشرعي، والحكم القضائي القدري، والحكم الجزائي، فإنه كله لله.
وذلك ككل مسائل الاعتقاد التي يكثر بيانها في القرآن بأوضح الأدلة وأعظم البراهين، لكي تستقر في نفوس المؤمنين، ويرد على الكافرين والمنافقين شبههم وأباطيلهم، لكثرة تأكيد المعاني الإيمانية.
قال رحمه الله: ويفهم من قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:١٢١]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان، لقوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[يس:٦٠ - ٦١].
وكان الكفار يقولون: أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله بيده؟ فكانوا يزعمون بهذا التأويل الفاسد إباحة الميتة وتحليلها، وهم يعلمون أن الله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم تحريمها، ولكنهم آثروا ما نشئوا عليه من إباحتها، فكانوا يجادلون بهذه المجادلات الباطلة، فأكد الله عز وجل النهي فقال:((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)).
فالأوامر والنواهي هي التي يعرف منها التشريع، وليست الأقيسة الفاسدة والعقول السخيفة التي يستعملها المشركون، فسمى الله من أطاعهم في تغيير الشرع مشركين فقال:((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))، وهذا هو ما أخبر الله عز وجل به عن المشركين، وما نهى عنه بني آدم من عبادة الشيطان، وذلك باتباع تشريع فيه خلاف شرع الله سبحانه وتعالى، ومن اتبع الشيطان في خلاف شرع الله سبحانه وتعالى فهو عابد له، وكل من سن تشريعاً يخالف تشريع الله فقد شطن وبعد عن الحق، فهو شيطان من شياطين الإنس أو الجن، كما بين سبحانه وتعالى أن شياطين الإنس أعداء الأنبياء كشياطين الجن:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[الأنعام:١١٢].
وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم:{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:٤٤]، وقوله تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}[النساء:١١٧]، أي: ما يعبدون إلا شيطاناً وذلك باتباع تشريعه؛ لذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، كما في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}[الأنعام:١٣٧]، فسماهم شركاء ونسبهم إليهم؛ لأنهم اخترعوا هذه الشركة مع الله، ولا حقيقة لها في الواقع، وإنما هي في أذهانهم وعقولهم الفاسدة وعقائدهم الباطلة، وهم اعتقدوا أن هؤلاء شركاء مع الله، ولذلك بين الله عز وجل بطلان ذلك، والشركاء زينوا للمشركين وأد البنات خشية الفقر، وجعل ذلك الشرع من الشركاء؛ لأنهم هم الذين اتخذوهم.