[وجوب ربط الناس عند علاجهم بالله عز وجل وعدم التعلق بالدنيا]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله تعالى) يعني: أن جليساً من جلساء الملك من الطبقة المترفة سمع -بعد أن أصيب بالعمى- بغلام يداوي الناس من سائر الأدواء ويشفى، هكذا تناقل الناس: أن الغلام يشفي.
وهذا من أمراضهم القلبية التي هي أخطر من أمراضهم الجسدية، فهذا الجليس كان يفكر بطريقة مادية محضة، وهي أن الهدايا الكثيرة والمال تشتري كل شيء، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الغلام مثله مثل طبقته الذين لا يعرفون إلا لغة والسعي من أجله، نعم هو كذلك عند أكثر الناس، فأكثرهم يقولون: المال هو عصب الحياة، وليس كذلك عندنا، بل المال هذا كالنعل التي تلبسها، فيجب أن يكون كذلك.
فهذه الطبقة تظن أن كل شيء يمكن أن يحصل بالمال، فأتاه بهدايا كثيرة، وقال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) وكلمة (أجمع) تدل على أنه يراه كثيراً جداً، ويرغبه بهذه الكلمة، ولا شك أنه ينظر إليه بنظرة معظمة، فهذه الكلمة تدل على شعوره بأن هذا عظيم الشأن كبير القدر، وهذا حال أكثر الناس، فلا ميزان عندهم إلا بالمال، ولا غنى عندهم إلا به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فغنى النفس يكون بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يسد فقر الآدمي وحاجته، وأما غناه بعرض الدنيا فهو الفقر بعينه.
وهذا الغلام لم يلتفت إلى هذا الذي أتى به ذلك الجليس أدنى التفات، فلم يقل له: ما هذه الدنيا التافهة التي تريد أن تغرني وتغريني بها، أو ترغبني فيها؟ ولم يقل له: إن هذا كثير منك، وإنه لشعور طيب أن تأتيني بهذا كله، أو نحو ذلك، وإنما أعرض عن هذا بالكلية، والتفت إلى الكلمة الخطيرة المؤثرة في كلامه، حيث قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) وذلك حين قال له: (إن أنت شفيتني)، فنبهه بذلك إلى الخطر الأعظم.
فموقفه من الهدايا موقف رائع وعظيم، وهو يدلنا على ما ينبغي أن تكون عليه الدنيا في قلوبنا، وهو إسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، فنسكت عنها بالكلية من القلب.
وهكذا يجب على الدعاة أن يجعلوا الدنيا لا قيمة لها في دعوتهم، ولا بد لهم من هدم الميزان الفاسد: ميزان تعظيم من ملكها واحتقار من فقدها، فالمجتمع الذي يريدون بناءه لا يُقبل فيه هذا الميزان الذي ضل بسببه أكثر الأمم قديماً وحديثاً من عهد نوح عليه السلام وإلى زماننا، حيث قال قوم نوح له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:٢٧]، وكل الرسل كان أغلب أتباعهم من الضعفاء والفقراء، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الأنبياء، فأمم كثيرة ضلت بسبب تعظيم المال.
فلا بد أن تربى الطائفة المؤمنة منذ نشأتها على عدم الاهتمام بالمال، ولا يحتاج الأمر إلى ذمه لكي تتشفى النفوس من تركه؛ لأن الإنسان إذا فاته شيء يريد أن يشتفي منه، ويريد أن يصبر نفسه عنه، ويقنعها بأنها تركت شيئاً حقيراً تافهاً، فيظل يذمه؛ لكي يصغره في قلبه، وذمه هذا دليل على منزلته عنده، ولذلك ما أحسن ما قال الهروي في حقيقة فقر الزهاد قال: نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً.
ويكون نفض اليدين من الدنيا ضبطاً -أي: بخلاً بها- عندما تكون موجودة، أو طلباً -أي: بحثاً عنها- عندما تكون مفقودة، فالبخل هو الحرص، فيحرص عندما يتطلع في الشيء الذي ليس بموجود، فيرغب في الموجود ويمسكه.
وقوله: (وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً) أي: يسكت اللسان عنها لأنها لا قيمة لها، فهل عندما يمر إنسان بدجاجة ميتة قد تعفنت يرجع إلى أهله ويقول: لقد رأيت دجاجة متعفنة وقد تركتها؛ لأنها كانت رائحتها كريهة؟! كلا، ولو ظل يتكلم بهذا فسيقولون له: لماذا تتكلم في هذا؟ ولماذا تذكر لنا هذه الأشياء التي لا تفيد شيئاً؟ لكنه لا يتكلم إلا بما له وزن عنده، ولذلك لن يذم إلا ما يريد أن يتشفى من تركه، بمعنى: أنه يريد أن يعوض نفسه؛ يقول لها: أنت أعز من ذلك، ولذلك عقب الكلام بقوله: والسلامة منها طلباً أو تركاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة)، فهل إذا جلسنا في مجالسنا نقول: إن جناح البعوضة شيء يسير ونحو ذلك؟ كلا.
فلنعلم فعلاً أن ذم الدنيا إنما نستعمله لأنها أكبر بكثير من حقيقتها في نفوسنا، ونذمها ونقول: إنها حقيرة وتافهة ولا تساوي شيئاً؛ لأنها في نفوسنا ما زال لها قيمة، وأما جناح البعوضة فمن في مجالسنا يشغل نفسه بالبعوض نفسه فضلاً عن جناح البعوض؟ أو الجدي الأسك الميت، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه حين قال: (للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم).
ولذلك عقب الكلام بقوله: (والسلامة منها طلباً) يعني: السلامة من طلبها، فلا يطلبها الإنسان؛ فإنه عندما يتركها يسلم منها، وهذا فعلاً علامة الغنى بالله، والاستغناء عن الدنيا؛ لأن بعض الناس قد يتركها ولكنه لا يسلم منها، بمعنى: أنه يتشرف بتركه، ويتشرف بزهده، ويرى أنه ترك شيئاً كبيراً لله عز وجل، فهو لم يخلص في زهده.
وكما ذكرنا في المثل الذي نحن بصدده: لا يرجع أحد إلى أهل بيته ويقول: قد كانت أمامي بعوضة فتركتها، أو قد كان أمامي دجاجة ميتة فتركتها، ومثل هذا تماماً من يقول: كان أمامي المال الحرام مفتوحاً علي فما رضيت أن آخذه، فإن هذا دليل على أنه ما زال يعظم الأمر هذا؛ لأنه لو كان فعلاً لا يساوي عنده جناح بعوضة لما قال: كان أمامي.
ومثل هذا من يقول: أمامي عمل كثير، وممكن أن آتي بفلوس من أي مكان، لكني تركت ذلك من أجل طلب العلم، أو من أجل الدعوة، أو من أجل الجهاد! فمثل هذا لا زال يعظم الدنيا في قلبه.
والكلام هذا كله جاء بسبب ذكر هذا الغلام الذي لم يأت بسيرة الهدايا، بل أعرض عنها ولم يلتفت إليها؛ فإن جليس الملك قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فلم يقل له: أنا لا أريد الهدايا هذه، بل أهملها بالكلية، وقال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفى الله تعالى).