قال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:١٦]، فهو يريد أن يقعد على هذا الصراط ليصدهم ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، فإبليس يعرف الصراط المستقيم، فالإيمان عنده أبداً لم يكن فقط إيمان معرفة، فإبليس كان يعرف كل ذلك ولا يلتزم به، والصراط المستقيم هو: الإسلام، وهو دين الحق، فهو يصدهم عنه ويقعد لهم، فإذا أراد الإسلام يقول له: أتترك دين آبائك؟! كما فعل مع أبي طالب حتى مات على الكفر بسبب الشبهة، أتترك دين آبائك؟! فهو قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فإبليس كان من وراء أبي جهل الذي قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، وأكثر الناس كفار من أجل أن آباءهم وأمهاتهم كانوا كفاراً والعياذ بالله! وربما قعد له إبليس في طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أرض آبائك؟! فعصاه فهاجر، وربما قعد له في طريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فتنكح المرأة ويقتل الناس؟! فعصاه فجاهد.
قال تعالى مخبراً عنه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}[الأعراف:١٧]، يرغبهم في الدنيا ويكره إليهم الآخرة، فينسيهم أمر الآخرة ويجعلهم في غفلة عنها:{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف:١٧] يأتيهم من قبل الطاعات فيجعلهم يتكاسلون عنها، ومن قبل المعاصي فيرغبهم فيها ويوقعهم في الشهوات.
قال تعالى مخبراً عنه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:١٧]، وانتفاء الشكر أعظم وسيلة يصل بها إبليس إلى مراده، وظن إبليس أن أكثر الناس إذا نسوا الآخرة، وانشغلوا بالدنيا، وانهمكوا في الشهوات، وابتعدوا عن الطاعات فقد تركوا شكر الله، وإذا زال الشكر بالكلية حصل الكفر بالكلية والعياذ بالله، قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[سبأ:٢٠].
فإبليس ظن ذلك وقد حصل تصديق ذلك الظن حين اتبعه أكثر الناس على ذلك، فأكثر ما يغيض إبليس وأكثر ما يقطع عليه طريقه أن تشكر نعمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والحمد والشكر هو أول ما أمرنا الله عز وجل به، وأول ما تكلم الله عز وجل به في كتابه، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:٢].
فقد أمرنا أن نقول الحمد سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم، وشكر نعمة الله: أن يعلم الإنسان من قلبه أن الله عز وجل هو الذي أنعم عليه بهذا؛ فيشعر بالخضوع والمنة له سبحانه وتعالى، ثم يثني على الله بلسانه، ثم يستعمل هذه النعمة في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك يقطع ظهر إبليس ويقطع عليه طريقه، وطريق إبليس ألا تشكر نعمة الله بأن ترى نفسك صاحب الفضل في النعم، كأن تقول:{هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}[فصلت:٥٠] وكما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٨].
فالذي لا يرى نعمة الله عز وجل عليه يستجيب لدعوة إبليس، كأن يرى نعم الله على الناس فيقول: لم ينعم علي ربي كما أنعم على الناس، فقد ظلمني ولم يعطني حقي: فهذا داء الحسد كما ذكرنا ومنبعه ذلك، لكن أن ترى نعم الله عليك الكثيرة فترى نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اليد، ونعمة الرجل، ونعمة سلامة الجسد، ولو حرمت واحدة منها تذكرت الأخريات فسوف تسعد أعظم السعادة دائماً، فإذا حرمت نعمة فقد أعطيت غيرها والخير كثير فكم تساوي يدك؟! وكم تساوي رجلك؟! كم يساوي عقلك؟! كم تساوي أذنك؟! كم يساوي قلبك الذي جعل الله عز وجل فيه الإيمان والإسلام؟! لا شك أن شكر نعمة الله سبحانه وتعالى يقطع طريق إبليس من أصله؛ ولذلك فنسيان الآخرة والانشغال بالدنيا، والإقبال على المعاصي والشهوات، وترك العبادات والطاعات كلها مرتبطة بترك الشكر؛ لذلك فإن أكثر الناس الذين لا يعرفون نعمة الله ولا يشكرونها يكونون منغمسين في هذه الأربعة كلها.
فلابد أن تقطع الطريق على إبليس فتشكر نعمة الله عز وجل، وتقبل على الطاعات والعبادات، وتبتعد عن الشهوات والمخالفات، وتقبل على ذكر الآخرة وتهتم بها، وتبتعد عن الرغبة في الدنيا وتزهد فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت شاكر لنعم الله، قاطع على إبليس طريقه فلا يتحقق غرضه منك.