فكان سجود الملائكة لآدم أمراً من الله عز وجل مكرماً به لآدم الذي علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكان هذا كله من أسباب تكريمه ومنزلته العالية عند الله سبحانه وتعالى.
وجعل سبحانه وتعالى المؤمنين من ذرية آدم أكمل الخلق، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:٧] وذلك أنهم يعملون بطاعته سبحانه وتعالى رغم وجود إرادة الشر والسوء والشهوات في نفوسهم، فهم يقاومونها، والله عز وجل حين قال للملائكة:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:٣٠]، تعجبت الملائكة من وجود خلق جديد مع أن الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى، وتفعل بما تؤمر، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون؟! ولذلك سألوا عن حكمة وجود خلق جديد مع ما أعلمهم الله من أنه سوف يوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فلعلمهم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته تعجبوا من وجود هذا النوع الذي يوجد فيه الخير والشر، ويوجد فيه الطيب والخبيث! فسألوا الله عز وجل عن حكمة إيجاد نوع يوجد فيه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مع قدرته عز وجل على خلق من يعبده ولا يعصيه قط؟ فقال عز وجل:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠] ذلك أنه عز وجل يعلم وجود الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء من بني آدم، يعبدونه عبودية هي أكمل أنواع العبودية مع أن إرادتهم فيها المنازعة، ففيها إرادة الخير وإرادة الشر، وهم يعبدون الله في ظروف وأحوال تختلف عن ظروف وأحوال عبادة الملائكة، فالملائكة ليس فيهم من يعصي الله، وليس فيهم من يأمر بالمنكر، وليس فيهم من ينهى عن المعروف، وليس فيهم من يكفر بالله، وليس فيهم من يصد عن سبيل الله، فإذا وجدت عبودية لله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأحوال في ظروف المصادة والمشاقة والبعد عن دين الله وشرعه كان ذلك أحب إلى الله عز وجل.
فمن أجل وجود هذه العبودية قدر سبحانه وتعالى وجود من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حتى يوجد من ينهاه ومن يجاهده، ومن يحبس نفسه على طاعة الله ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله، وحتى يعبد الله سبحانه وتعالى، بعكس ما يفعله أكثر الناس، فهذه عبودية أحب إلى الله عز وجل، بل من أجلها أوجد العصاة والمجرمين؛ لكي يتعبد المؤمنون له بالصبر والاحتساب والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليتخذ الله عز وجل منهم شهداء يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه وتعالى، فله الحكمة البالغة، فهو عز وجل كرم آدم عليه السلام وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهذه الروح ليست جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك- ولكنها روح أضيفت إلى الله تشريفاً وتكريماً، فهي مثل: ناقة الله، وبيت الله، ففيها إضافة تشريف، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}[الحجر:٢٩]، فروح آدم وبنيه أضيفت إلى الله إضافة ملكية للتشريف، فهي مملوكة مخلوقة لله سبحانه وتعالى.