للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسألة الاستثناء في اليمين]

ذكر الله في أول مسألة من المسائل الثلاثة مثالاً للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣ - ٢٤]؛ لأنه ترك الاستثناء صلى الله عليه وسلم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يستثني.

قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:٢٤] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له.

يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقوله.

قاله أبو العالية والحسن البصري، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا نسيت ذلك.

قيل للأعمش: سمعته من مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف- وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.

يقول: ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة، فله أن يقول ذلك، ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم.

لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني ولو بعد سنة في حلفه إن كان يقصد به أنه يسقط عنه كفارة لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين ولا الكفارة؛ فإن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حنثه فيما حلف عليه أن يقول في أي وقت: إن شاء الله، ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس وإنما يقصد التكثير، فالذي لا شك فيه: أن ذلك غير مقصود؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً وإلى أن يصبح اليمين قابلاً للإلغاء؛ لأنه يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه مع أنه يكون قد حلف يميناً ناجزة ملزمة له، لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مسألة الأدب دون مسألة الكفارة، وعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان أن يحلف لا يفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم، ويقولون: هذا النهي للتنزيه، ويقولون: إن قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:٢٣] للتنزيه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لا يفعلونها على أن يفعلوها ولم يستثنوا فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام فيما أقسم عليه فإنه يدل على أن هذا النهي للتنزيه والله أعلى وأعلم.

ولذلك نقول: إن كان لتحصيل الفضيلة، فيقول: إن شاء الله ولو بعد سنة، أما إذا حلف واستثنى مباشرة بعد اليمين كان الاستثناء صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصل فاصل عرفياً لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه النفس الذي انقطع، أو أراد أن يأخذ نفساً، أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى أن لا يستثني مباشرة، وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره وطالما اتصل به أجزأ.

وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله.

في قسمه ليس عليه حنث، وإذا خالف ما حلف عليه لم يحنث بذلك، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم.

وذهب أهل الظاهر إلى أن له أن يستثني ولو بعد سنة، ويكون ذلك بديلاً من الكفارة، وهذا القول باطل ليس بشيء ولا قيمة له، وإن كان يظن أنه قول ابن عباس وليس كذلك إن شاء الله.

وقال عكرمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا غضبت.

وفي الحقيقة أن الغضب من أسباب النسيان.

وقال الطبراني عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:٢٣ - ٢٤] أن تقول: إن شاء الله.

وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت.

وقال: وهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه، ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين.

والذي يظهر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف دون استثناء، وكان أخبر أنه يكفر عن يمينه إذا رأى ما هو خيراً منها، قال: (والذي نفسي بيده! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، فلو كان الاستثناء يحل محل الكفارة لاستثنى صلى الله عليه وسلم بعد مدة، ولما احتاج إلى الكفارة، ولكنه لم يفعل بل عزم على أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا هو الصحيح.

إذاً: خلاصة الاستثناء أنه توجد مسألة الإثم ومسألة الأدب وتحصيل السنة، فإحسان الأدب وتحصيل السنة بأن يقول: إن شاء الله ولو في أي وقت يتذكره، ولكن ينعقد اليمين إذا لم يستثن متصلاً بيمينه كما ذكرنا إلا الفاصل اليسير عرفاً.

قال: ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:٦٣]، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للذكر، ولهذا قال: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) يعني إذا نسيت شيئاً مهماً فاذكر الله؛ فإن ذلك يعينك على تذكره؛ لأنه يذهب عنك الشيطان، وهذا ليس بظاهر، فجمهور السلف يقولون: إذا نسيت الاستثناء ونسيت أن تقول: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم، أما هذا فيقول: إذا كنت ناسياً لأي شيء فدعاء النسيان أن تذكر الله، كأن تقول: سبحان الله، لكن الصحيح هو الأول.

قال: ((وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)) أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>