ومع أن السحر كان عند فرعون وملئه إلا أنه اتهم به موسى كما قيل:(رمتني بدائها وانسلت) ففرعون هو الذي يكره الناس على السحر؛ فقد فضحه السحرة كما حكى الله عنهم حيث يقولون:{لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}[طه:٧٣]، فهو الذي كان يعلم الصغار على يد الكبار، ويلزمهم ويكرههم على تعلم السحر ومع ذلك يتهم موسى عليه السلام بأنه أتى بالسحر، ويزعم أن ذلك بَيِّن جداً، وأنه سحرٌ مبينٌ، فأي كذبٍ أفضح من هذا؟! فهو يرى الحق أمامه بيناً جلياً ويوقن به في نفسه، ومع ذلك يتهم أهله بأنهم هم السحرة مع أنه هو الساحر، ويتهم أهله بالكذب مع أنه هو الكاذب، ويتهم أهله بأنهم يريدون الكبرياء مع أنه هو المتكبر، فسبحان الله! أي تناقض هذا؟! يتهم أهل الحق بأنهم يريدون الفساد مع أنه من أعظم المفسدين، كما قال الله تعالى حاكياً عنه:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر:٢٦]، ففرعون يتهم موسى وهارون عليهما السلام بكل أمراضه الخبيثة؛ ويظن أن كل الناس كذلك، ففي نظره أنه إذا كان هو يعمل من أجل الكبرياء، فلا بد أن موسى يريد الكبرياء، وإذا كان هو يعمل بالسحر فلا بد أن موسى أيضاً يعمل بالسحر مع أنه يوقن بالفرق، وقد علم ذلك، كما وصفهم الله بقوله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:١٤].
وكذا قال عز وجل عن موسى في خطابه لفرعون:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء:١٠٢].
وهذه النوعية من البشر نوعية فظيعة مجادلة بالباطل من أجل جحد الحق، رغم وضوحه وجلائه، قال عز وجل:{قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا}[يونس:٧٦ - ٧٧]، وهذا استفهام للنفي وللإنكار عليهم، فهذا لا يمكن أن يكون سحراً؛ لأن السحرة أنفسهم قد أقروا بأنه ليس بسحر، ويستحيل أن يكون سحراً.
هذا الذي يفعله فرعون في هذه القصة هو أسوة سيئة لكل من سار على طريقه ونهجه.