للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عزلة أصحاب الكهف]

قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:١٦]، هذه الآية الكريمة تدل على مشروعية الاعتزال عندما يخاف الإنسان على دينه من الفتن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن).

والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها، فهذا فرض لا نحيد عنه، ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦]، فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧].

فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه، أو أنه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهاً، ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً.

أما اعتزال أهل الشر ومفارقتهم، وأن لا يكون معهم في بلدهم فالآية تدل على ذلك {إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:١٦]، فهم أولاً اعتزلوا الشرك، وتركوا عقيدة قومهم الباطلة في دعاء آلهة من دون الله لا دليل عليها، وافترائهم على الله الكذب، تركوا ذلك كله وهجروه واعتزلوه، ثم ضغط عليهم قومهم، وأرادوا فتنتهم؛ فكان اعتزالهم بأبدانهم عن قومهم ومفارقتهم ديارهم هي العزلة عن أهل الشر، وهي على أحوال أيضاً، فأما القدر الواجب منها: أنه إذا لم يكن هناك طريق للتخلص من أن يقع الإنسان في الظلم؛ فضلاً عن الشرك -والعياذ بالله- إلا بالفرار والهجرة، فهنا يكون الفرار بالدين من الفتن واجباً.

والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها، ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه.

ومن إقامة الدين -إذا كان الإنسان قادراً على صورة من الصور-: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛ لأن هذا ليس من إقامة الدين، فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك، فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً، وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد، وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه.

وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين، ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى لنبذ الشرك وتركه، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أنقذ أحد من الشرك، ولو كان الرسل أول ما أوحي إليهم أن هذا شرك وكفر رحلوا وفارقوه لما اهتدت أقوام بعضهم، فليس كل من يعلم الحق بمجرد أن يعلمه ينصرف عن أهله، فلا بد أن يوجد من يقيم بين الناس حتى يبلغ دعوة الحق.

ولذلك نقول: إن الاعتزال في هذه الحالة مع القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو وجود مصلحة شرعية لإنقاذ مسلم هلك لا يكون مشروعاً في تلك الحالة، بل الأفضل -إن لم يكن الواجب- أن يظل الإنسان مرتبطاً بالناس يأمرهم وينهاهم، خصوصاً مع أن واجبات تعليم الناس الخير، وأمرهم ونهيهم عن المنكر من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط الحرج عن الباقين، وإلا أثم الجميع.

ومن هنا فإذا ترك الإنسان المكان واعتزل الناس ضاع هذا الواجب لم يجز له ذلك، وإذا كان هناك من يقوم به ويتأدى الفرض به فيمكنه أن يرحل إلى مكان أكثر طاعة لله سبحانه وتعالى.

وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر فهو أيضاً من الواجبات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:١٤٠]، فمن هنا كان إقامة الإنسان في مجالس المنكر محرم، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم مشاركاً لهم فيما هم فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>