قال تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}[يونس:٨٤]، إذاً: يدفع خطر الفتنة بالتوكل على الله، ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا))، عليه وحده بدليل أنه قدم الجار والمجرور (عليه توكلوا) وهذا يفيد الاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده.
((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، إذاً: فالتوكل من شروط الإيمان والإسلام، وفي هذه الآية اجتماع الإيمان والإسلام، وأن معناهما واحد، وهو من المواضع القلية الوقوع، وإن كان الأغلب أنهما إذا اجتمعا افترقا فالإيمان يكون مختصاً بأعمال الباطن والإسلام بأعمال الظاهر، لكن هنا كان الإيمان والإسلام متلازمان في المعنى فالإسلام يعني الظاهر والباطن والإيمان كذلك ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا))، امتثلوا الأمر وبه دفع الله عنهم الأذى، كما قال مؤمن من آل فرعون:{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر:٤٤ - ٤٥]، فموسى هو أول من توكل؛ لأن فرعون قال {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}[غافر:٢٦ - ٢٧]، ((إِنِّي عُذْتُ))، أي: التجأت إلى الله، فكان موسى أول المتوكلين؛ وإذا بفرعون دائماً يبتعد عن موسى، وينسحب عنه؛ لأنه عاذ بالله، فكيف يستطيع الوصول إليه؟ مع أن العادة تقضي بأن يبدأ بكبير القوم.
ثم قال الله على لسان الملأ:{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[الأعراف:١٢٧]، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}[الأعراف:١٢٧]، عجيب أمرك! فلماذا لا تبدأ بموسى؟ إذ كان من المفروض أن تبدأ به فلماذا تهرب منه؟ فقد كان فرعون يهرب منه ويبتعد عن سيدنا موسى فقد صرفه الله؛ لأن ناصيته بيد الله، فالله عز وجل جعله ينصرف عن موسى صلى الله عليه وسلم، بل كما ذكرنا أنه كان إذا رأى موسى يرعب، ويخاف مع أنه يهدده بالبطش الشديد.
وموسى ساكن مطمئن، وتأمل هذه السكينة والطمأنينة ساعة ترائي الجمعان {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:٦١ - ٦٢]، سكينة عجيبة، فهذه الدنيا كلها جنود من كل أرجاء مصر، وسيدنا موسى بالنسبة لهم هو ومن معه مجموعة قليلة بالمقاييس الدنيوية، كما قال الله:{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:٥٥ - ٥٦]، وكانت القضية غير ذلك، فسيدنا موسى في طمأنينة تامة وسكينة كاملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:٢٨].
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[يونس:٨٥]، وهذا دعاء عظيم جداً ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، والفتنة: لها تفسيران كلاهما حق، وهما متلازمان، الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنونا عن ديننا، الثاني: لا تجعلنا فتنة لهم، بمعنى: أنهم لو هزمونا وغلبونا لظنوا أنفسهم على الحق، فكان ذلك فتنة لهم ينصرفون بها، ويقولون: لو كانوا على الحق لما فعلنا بهم ما فعلنا، وكثير من الناس يزنون الحق والباطل بميزان النصر والهزيمة، فالمنتصر هو المحق، والمغلوب هو المبطل، مهما كان معه من بينات وحجج، فالضعيف المغلوب لا بد أن يكون على الباطل، والقوي المنتصر لا بد أن يكون محقاً، وهذا أمر عجيب الشأن عند أكثر الناس وبهذا يفتنون حين ينهزم أهل الإسلام.